الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 132 ] ( 6 ) باب ما لا حد فيه

1546 - قال مالك : إن أحسن ما سمع في الأمة يقع بها الرجل ، وله فيها شرك ، أنه لا يقام عليه الحد ، وأنه يلحق به الولد ، وتقوم عليه الجارية حين حملت ، فيعطى شركاؤه حصصهم من الثمن ، وتكون الجارية له ، وعلى هذا ، الأمر عندنا .


35744 - قال أبو عمر : هذا واضح ؛ لأنه قد سمع الخلاف في هذه المسألة ، واختار منه ما ذهب إليه ، وذكره في " موطئه " ، وله من السلف في ذلك عبد الله بن عمر ، وشريح ، وإبراهيم ، وغيرهم ، ولم يفرق ابن عمر ، بين علم الواطئ بتحريمها عليه ، وبين جهله ، ولم ير عليه حدا ، وجعله خائنا .

35745 - وهو قول أبي حنيفة وأصحابه .

35746 - والقياس أحد قولي الشافعي ؛ لأنه قال في رجل له أمة ، وهي أخته في الرضاعة ، وطئها عالما بالتحريم ؛ فيها قولان :

35747 - ( أحدهما ) : عليه الحد .

35748 - ( والثاني ) : لا حد عليه ؛ لشبهة الملك التي لا شبهة له فيها .

35749 - وأما حديث ابن عمر ، فذكره أبو بكر ، قال : حدثني وكيع ، [ ص: 133 ] عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عمير بن نمير ، قالا : سئل ابن عمر ، عن جارية كانت بين رجلين ، فوقع عليها أحدهما ، فقال : ليس عليه حد ، هو خائن تقوم عليه قيمتها ويأخذها .

35750 - قال : وحدثني يحيى بن سعيد ، عن سعيد ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، في جارية كانت بين رجلين ، فوقع عليها أحدهما فحملت ، قال تقوم عليه .

35751 - قال : وحدثني حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي ، عن حسن بن صالح ، عن ليث ، عن طاوس ، في الجارية تكون بين الرجلين ، فيطؤها أحدهما ، قال : عليه العقر بالحصة .

35752 - قال أبو عمر : من درأ عنه الحد ، ألحق به الولد ، وألزمه نصيب [ ص: 134 ] شريكه أو شركائه ، من صداق مثلها ، ولم يقومها عليه ، ومن قومها عليه ، لم يلزمه شيئا من الصداق .

35753 - وكان الحسن يقول : يعزر ، ويقوم عليه ، ذكره أبو بكر ، عن يزيد ، عن هشام ، عن الحسن .

35754 - قال : وحدثني كثير بن هشام ، عن جعفر بن برقان ، قال : بلغنا أن عمر بن عبد العزيز أتي بجارية كانت بين رجلين ، فوطئها أحدهما ، فحملت ، فاستشار في ذلك سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وعروة بن الزبير ، فقالوا : نرى أن يجلد دون الحد ، ويقومونها قيمة ، ويدفع إلى شريكه نصف القيمة .

35755 - وقد روي عن سعيد بن المسيب ، في هذه المسألة قول آخر ؛ أنه يجلد الحد إلا سوطا واحدا .

35756 - ورواه معمر ، عن يحيى بن كثير ، قال : سئل سعيد بن المسيب ، ورجلان معه من فقهاء المدينة ، عن رجل وطئ جارية له فيها شرك ، فقالوا : عليه الحد إلا سوطا واحدا .

[ ص: 135 ] 35757 - وذكر أبو بكر ، قال : حدثني حفص بن غياث ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب ، في جارية ، كانت بين رجلين فوقع عليها أحدهما ، قال : يضرب تسعة وتسعين سوطا .

35758 - وقد جاء عن سعيد بن المسيب ، وفي ذلك أيضا رواية ثالثة ، ذكرها عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني داود بن أبي العاصم ، عن سعيد بن المسيب ، في رجلين بينهما جارية ، وطئاها معا ، قال : يجلد كل واحد منهما شطر العذاب ، وإنما درأ عنهما الرجم نصيب كل واحد منهما ، وإن ولدت دعي للولد القافة .

35759 - وعن معمر ، عن الزهري ، في رجل وطئ جارية ، وله شرك ، قال : يجلد مائة أحصن أو لم يحصن ، وتقوم عليه هي وولدها ، ثم يغرم لصاحبه الثمن ، قال معمر : وأما ابن شبرمة ، وغيره من فقهاء الكوفة ، فيقولون : تقوم عليه هي وولدها ، ثم يغرم لصاحبه الثمن ، قال معمر : ولا يقوم عليه ولدها .

35760 - قال أبو عمر : من قومها عليه يوم الوطء ، لم يقوم ولدها ، ومن [ ص: 136 ] قومها بعد الوضع ، قوم ولدها معها ، ويغرم لشريكه نصف قيمتها ، ونصف قيمة ولدها ، إن كانت بينهما نصفين .

35761 - وذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثني داود بن الجراح ، عن الأوزاعي ، عن مكحول ، في جارية بين ثلاثة وقع عليها أحدهم ، قال : عليه أدنى الحدين ، مائة ، وعليه ثلثا ثمنها ، وثلثا عقرها ، وثلثا قيمة الولد إن كان .

35762 - وذكر عبد الرزاق ، عن أبي حنيفة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، في الجارية تكون بين الرجلين ، فتلد من أحدهما ، قال : يدرأ عنه الحد بجهالته ، ويضمن لصاحبه نصيبه ، ونصف ثمن ولده .

35763 - قال : وإن كان بين أخوين ، فوقع عليها أحدهما ، فولدت ، قال : يدرأ عنه الحد ، ويضمن لأخيه قيمة نصيبه من الجارية ، وليس عليه قيمة في ولدها ؛ لأنه يعتق حين ملكه .

35764 - قال أبو عمر : هذا على ما ذكرنا في كتاب العتق - من مذهب الكوفيين - في أنه يعتق على إنسان كل ما ملكه من ذي رحم محرم منه .

[ ص: 137 ] 35765 - قال عبد الرزاق : وقال لنا سفيان الثوري : أما نحن فنقول في هذه : لا جلد ولا رجم ، ولكن تعزير .

35766 - ومذهب الأوزاعي فيها ، كمذهب الزهري ومكحول : يضرب أدنى الحدين ، أحصن أو لم يحصن .

35767 - وقال أبو ثور : عليه الحد كاملا ؛ لأنه وطئ فرجا محرما عليه ، إذا كان بالتحريم عالما .

35768 - قال أبو عمر : ليس كل من وطئ فرجا محرما عليه وطؤه يلزمه الحد ؛ لإجماعهم أن لا حد على من وطئ صائمة ، أو معتكفة ، أو محرمة ، أو حائضا ، وهي له زوجة أو أمة .

35769 - والذي عليه جمهور الفقهاء ، أن شبهة الملك شبهة يسقط من أجلها الحد .

35770 - وأحسن ما فيه عندي ، أن يلزم الواطئ نصف صداق مثلها ، إن كان له نصفها ، ونصف قيمتها ، ويدرأ عنه الحد . وبالله التوفيق .

35771 - وأما الرجل الغازي يطأ جارية من المغنم ، وله في المغنم نصيب ، فاختلف الفقهاء في هذا ، على غير اختلافهم في الجارية تكون بين الرجلين ، فيطؤها أحدهما أو كلاهما ؛ فاختلف في ذلك قول مالك وأصحابه ، وسائر أهل [ ص: 138 ] العلم ؛ منهم من رأى الحد عليه ، ومنهم من لم ير عليه حدا ؛ لأن له فيها نصيبا .

35772 - الذي رأى عليه الحد ، قال : ليس عليه نصيب معلوم ، ولا حصة متعينة ، ولا ينفذ له في نصيبه عتق ، فكأنه لا نصيب له فيها حتى يبرزه له السلطان .

35773 - ذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن نافع ، أن غلاما لعمر بن الخطاب ، وقع على وليدة من الخمس ، فاستكرهها ، فأصابها ، وهو أمير على ذلك الرقيق فجلده عمر الحد ، ونفاه ، وترك الجارية ، ولم يجلدها ؛ من أجل أنه استكرهها .

35774 - قال أبو عمر : ذكر هذا الخبر عبد الرزاق ، في باب الرجل يصيب جارية من المغنم ، وهذا قد يمكن أن يكون الغلام عبدا ، لا حق له في الفيء ، وإنما فائدة هذا الخبر جلد العبد ونفيه ، وأن المستكرهة لا شيء عليها .

35775 - وقد مضى ذلك كله في موضعه من كتابنا هذا . والحمد لله كثيرا .

35776 - قال عبد الرزاق : وأخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرنا إسماعيل بن خالد ، أن رجلا عجل ، فأصاب وليدة من الخمس ، فقال : ظننت أنها تحل لي ، فقال علي رضي الله عنه : إن له فيها حقا ، فلم يجلده من أجل الذي له فيها .

[ ص: 139 ] 35777 - وذكر أبو بكر ، قال حدثني وكيع ، عن موسى بن عبيدة ، عن بكر بن داود ، أن عليا أقام على رجل وقع على جارية من الخمس الحد .

35778 - قال أبو عمر : كلا الخبرين عن علي منقطع ، لا حجة فيه ، ولا يقطع به على علي عليه السلام .

35779 - وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب في رجل وقع على جارية من المغنم قبل أن يقسم ، قال : يجلد مائة إلا سوطا ، أحصن أو لم يحصن .

35780 - وذكر أبو بكر ، قال : حدثني يزيد بن هارون ، عن هشام عن الحسن ، قال : إذا كان له في الفيء شيء عذر ويقوم عليه ، وكذلك في جارية بينه وبين رجل .

35781 - قال : وحدثني هشيم ، عن إسماعيل بن سالم ، عن الحكم ، أنه قال في رجل وطئ جارية من الفيء ؛ قال : ليس عليه حد ، له فيها نصيب .

35782 - وقد روي عن سعيد في ذلك خلاف ما تقدم .

[ ص: 140 ] 35783 - ذكر أبو بكر ، قال : حدثني عبدة ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : ليس عليه حد ، إذا كان له فيها نصيب .

35784 - قال أبو عمر : هذا أولى ؛ لأن الدماء محذورة إلا بيقين ، ولأن يخطئ الإمام في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية