الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1582 1559 - مالك ، أن أبا الزناد أخبره ؛ أن عاملا لعمر بن عبد العزيز أخذ ناسا في حرابة ، ولم يقتلوا أحدا ، فأراد أن يقطع أيديهم أو يقتل فكتب [ ص: 198 ] إلى عمر بن عبد العزيز في ذلك ، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز : لو أخذت بأيسر ذلك .


36021 - قال أبو عمر : ليس في " الموطأ " مثله في المحاربين غير هذه ، وهي لمحة كما ترى ، فلنذكر أحكام المحاربين بأخصر ما يقدر عليه بعون الله عز وجل .

36022 - وأما قول عمر بن عبد العزيز لعامله في المحاربين الذين لم يقتلوا : لو أخذت بأيسر ذلك ، فيدل على أنه كان يذهب إلى تخيير الإمام في عقوبة المحاربين على ظاهر القرآن ؛ قوله عز وجل : ( أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ) الآية [ المائدة : 33 ] .

36023 - فقالت طائفة : قد اختلف السلف ، ومن بعدهم من العلماء ، في حكم المحارب إذا أخذ في حرابته قبل أن يتوب ، واختلفوا في من عنى الله عز وجل بقوله : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا ) الآية [ المائدة : 33 ] .

36024 - فقالت طائفة منهم : نزلت في الكفار المرتدين الذين أغاروا على لقاح رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقتلوا الرعاة ، وكفروا بعد إيمانهم ، فمن كفر بالله [ ص: 199 ] من بعد إيمانه ، فقد حارب الله عز وجل ورسوله ، فإذا جمع السعي في الأرض بالفساد ، وهو الخروج عن المسلمين ، وقطع الطريق ، وإخافة السبل ، فهو ممن عني بالآية .

36025 - واحتجوا بحديث أنس ، رواه ثابت البناني وأبو قلابة ، وقتادة بن دعامة عن أنس ، أن نفرا من عكل ، وعرينة قدموا المدينة فتكلموا بالإسلام ، وكانوا أهل ضرع ، ولم يكونوا أهل إلف فاجتووا المدينة ، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بزود ولقاح ، وأن يخرجوا من المدينة فيشربوا من ألبانها وأبوالها .

36026 - وقال بعضهم ، في هذا الحديث : فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة ، فيشربوا من ألبانها وأبوالها فانطلقوا ، فلما كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم ، وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الإبل مرتدين ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم فأدركوا ، وأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، ومنهم من يقول ، وسمر أعينهم ، وتركوا بناحية الحرة يكدمون حجارتها حتى ماتوا .

[ ص: 200 ] 36027 - قال قتادة : فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ) الآية [ المائدة : 33 ] .

36028 - وممن قال : إن الآية نزلت في أهل الكفر ؛ الحسن ، وعطاء .

[ ص: 201 ] 36029 - وقال أكثر أهل العلم : نزلت في كل من قطع الطريق ، وأخاف السبيل ، وأخذ المال ؛ قتل أو لم يقتل على ما نذكر .

36030 - فمن اختلافهم في جزاء المحارب ، هل هو على الاستحقاق ، أو على تخيير الإمام فيه ؟ .

36031 - وأنكر الفقهاء أن تكون الآية نزلت في أهل الشرك ؛ لأن الله عز وجل قال في المحاربين : ( إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ) [ المائدة : 34 ] .

36032 - وقد أجمع علماء المسلمين على أن الكفار إذا انتهوا ، وتابوا من كفرهم ، غفر لهم كل ما سلف ، وسقط عنهم كل ما كان لزمهم في حال الكفر من حقوق الله عز وجل ، وحقوق المسلمين قبل أن يقدروا عليهم ، وبعد أن يقدروا عليهم ، ويصيروا في أيدي المسلمين فلا يحل قتلهم بإجماع المسلمين ، ولا يؤخذ بشيء جنوه في مال أو دم ، فدل ذلك على أن الآية لم تنزل في أهل الشرك والكفر .

36033 - وهذا هو الصحيح ؛ لأن المحاربين يؤخذون بكثير من ذلك ، مما يؤخذ منهم لإجماع العلماء ما وجد في أيديهم من أموال المسلمين ، وأهل الذمة أيضا .

[ ص: 202 ] 36034 - وقال مالك : يؤخذون بالدم إذا طلبه وليه .

36035 - وقال الليث : لا يؤخذون به .

36036 - وقال الشافعي : تضع عن المحارب توبته حد الله عز وجل الذي وجب لمحاربته ، ولا تسقط عنه حقوق بني آدم .

36037 - وقال أبو حنيفة : إن لم يقدر الإمام على قطاع الطريق ، حتى جاءوا تائبين ، وضعت عنهم حقوق الله عز وجل التي كانت تقام عليهم لو لم يتوبوا ، ويرجع حكم ما أصابوا من القتل والجراح إلى أولياء المقتولين والمجروحين ؛ فيكون حكمهم في ذلك كحكمهم لو أصابوا ذلك على غير قطع الطريق .

36038 - قال أبو عمر : هذا كله ليس هو الحكم عند أحد من العلماء فيمن أسلم من الكفار قبل أن يقدر عليه ، فدل ذلك على فاسد قول من قال : نزلت الآية في أهل الشرك .

36039 - وقال الفقهاء ، وأهل اللغة : معنى قوله عز وجل : ( يحاربون الله ) [ المائدة : 33 ] . يحاربون أهل دين الله عز وجل .

36040 - وأما اختلاف العلماء في جزاء المحاربين ؛ هل هو على قدر [ ص: 203 ] الاستحقاق ؟ أم على تخيير الإمام ؟ .

[ ص: 204 ] 36041 - فروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، وإبراهيم أن الإمام مخير ، يحكم فيهم بما شاء من الأوصاف التي ذكر الله عز وجل في الآية من القتل ، أو الصلب ، أو القطع أو النفي .

36042 - و " أو " عند هؤلاء للتخيير .

36043 - وممن قال بذلك ؛ مالك ، والليث ، وأبو ثور .

36044 - قال مالك : ذلك إلى اجتهاد الإمام ؛ يستشير بذلك أهل العلم والرأي والفضل ، على قدر جرم المحارب وإفساده .

36045 - وليس ذلك إلى سوى الإمام .

36046 - قال مالك : الفساد في الأرض : القتل ، وأخذ المال ؛ قال الله عز [ ص: 205 ] وجل : ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ) [ البقرة : 205 ] .

36047 - وقال عز وجل : ( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ) [ المائدة : 32 ] .

36048 - قال أبو عمر : معناه أو بغير فساد في الأرض ، فدل على أن الفساد في الأرض وإن لم يكن قتلا ، فهو كالقتل ، والفساد المجتمع عليه هنا قطع الطريق ، وسلب المسلمين ، وإخافة سبلهم .

36049 - والقول الثاني ؛ أن الحكم في المحارب ، أنه إن قتل قتل ، وإن أخذ المال وقتل ، قتل وصلب ، وإن أخذ المال ، ولم يقتل ، قطعت يده ورجله من خلاف ، وإن أخاف السبيل فقط ، لم يكن عليه غير النفي .

36050 - وروي هذا أيضا عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم النخعي ، والحسن البصري .

36051 - وهو قول أبي مجالد ، والضحاك ، وسعيد بن جبير ، وقتادة .

36052 - وهو قول أهل العلم .

[ ص: 206 ] 36053 - و " أو " عند هؤلاء للتفضيل .

36054 - وإلى هذا ذهب الشافعي ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي ، وأصحابهما ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق .

36055 - وقال الشافعي : تقام عليهم الحدود ؛ على قدر اختلاف أفعالهم ، من قتل منهم وأخذ المال قتل وصلب ، وإذا قتل ولم يأخذ مالا قتل ، ودفع إلى أوليائه يدفنونه ، ومن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ، في مكان واحد ، وحسم على عضوه بالنار قبل أن يقطع الآخر ، ومن حضر ، وكثر ، وهيب ، وكان ردءا عزر وحبس .

36056 - قال أبو عمر : نحو هذا قول الكوفيين وسائر من ذكرنا من الفقهاء ، والنفي عندهم ، أن يحبسوا حتى يحدثوا توبة .

36057 - وقال مالك : النفي أن يخرج إلى بلد آخر ، ويحبس هناك في السجن .

[ ص: 207 ] 36058 - وقال يحيى بن سعيد الأنصاري : ينفى من بلده إلى بلد غيره ، ولم يذكر حبسا .

36059 - وقال عبد الملك بن الماجشون : قول أبي ، وابن دينار ، والمغيرة ، أن نفي المحارب إنما هو أن يطلبه الإمام ؛ لإقامة الحد عليه فيهرب ، وليس كنفي الزاني البكر .

36060 - وهو قول ابن شهاب .

36061 - قال أبو عمر : في صلب المحارب أقوال لأهل العلم ، وكذلك في نفيه أيضا لأهل العلم أقوال واعتلالات وتوجيهات ، واختصرنا ذلك كله ؛ خوف الإطالة ، وشرطنا الاختصار والإشارة إلى ما أشار إليه مالك رحمه الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية