الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
211 182 ( معاد ) - وهذا مالك قد ذكر في موطئه عن داود بن الحصين ، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : صلى لنا رسول الله - عليه السلام - العصر ، فسلم في ركعتين ، وذكر الحديث .


5304 - هكذا حدث به في الموطأ عنه : ابن القاسم ، وابن وهب ، وابن بكير ، والقعنبي ، والشافعي ، وقتيبة بن سعيد .

5305 - ولم يقل يحيى وطائفة معه في حديث داود بن حصين : صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

5306 - وأما في حديث مالك عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة - فليس ذلك عند أحد من رواة الموطأ ، وإنما فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من اثنتين ، فقال له ذو اليدين .

5307 - قال أبو عمر : قول أبي هريرة في حديث ذي اليدين : صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وصلى بنا ، وبينا نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محفوظ من نقل الحفاظ .

5308 - فمن ذلك حديث شيبان عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : بينما أنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الظهر ، فسلم من اثنتين ، فقال له رجل من بني سليم ، وذكر الحديث .

5309 - وحديث ضمضم بن جوس الهفاني عن أبي هريرة ، قال : صلى لنا [ ص: 337 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي ، وذكر الحديث .

5310 - وحديث ابن عون عن محمد ابن سيرين عن أبي هريرة ، قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي .

5311 - وكذلك رواه هشام بن حسان عن محمد ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

5312 - وكذلك رواه العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه ، عن أبي هريرة .

5313 - وكذلك رواه ابن أبي ذئب عن المقبري ، عن أبي هريرة .

5314 - وكذلك رواه حماد بن زيد عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة .

5315 - ورواه - كما رواه أبو هريرة - : عبد الله بن عمر ، وعمران بن حصين ، ومعاوية بن خديج ، وابن مسعدة صاحب الحبوس ، وكلهم لم يصحب النبي - عليه السلام - إلا بالمدينة حاشا ابن عمر منهم .

[ ص: 338 ] 5316 - وقد ذكرنا طرق هذه الأحاديث وأسانيدها في " التمهيد " وهي صحاح كلها . والحمد لله .

5317 - وليس في أخبار الآحاد أكثر طرقا من حديث ذي اليدين هذا إلا قليلا . وأحسن الناس سياقة له حماد بن زيد عن أيوب ، عن محمد ، عن أبي هريرة .

5318 - حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكير ، حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب السختياني ، عن محمد ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي : الظهر أو العصر ، فصلى بنا ركعتين ، ثم سلم ، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد ، فوضع يديه عليها : إحداهما على الأخرى ، وخرج سرعان الناس ، وقالوا : قصرت الصلاة ، قصرت الصلاة ، وفي الناس أبو بكر وعمر ، فهابا أن يكلماه ، فقام رجل - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسميه ذا اليدين - فقال : يا رسول الله ، أنسيت أم قصرت الصلاة ؟ فقال : " لم أنس ، ولم تقصر " ، قال : بل نسيت يا رسول الله ، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القوم ، فقال : " أصدق ذو اليدين ؟ " ، فأومئوا أن نعم ، فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مقامه ، فصلى الركعتين الباقيتين ، ثم سلم ، ثم كبر ، فسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع وكبر ، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع وكبر ، قال : فقيل لمحمد : سلم في السهو ؟ قال : لم أحفظه ، ولكن نبئت أن عمران بن حصين قال : ثم سلم .

[ ص: 339 ] 5319 - قال أبو داود : وكل من روى هذا الحديث لم يقل فيه : فأومئوا ، إلا حماد بن زيد .

5320 - قال أبو عمر : من هاهنا قال أحمد بن حنبل - والله أعلم - : إن الإمام وحده إن تكلم في شأن صلاته لم يضر ذلك صلاته ، وإن تكلم غيره أفسد صلاته .

5321 - وأما قولهم : إن ذا اليدين قتل يوم بدر فغير صحيح ، وإنما المقتول يوم بدر ذو الشمالين ، ولسنا ندافعهم ، ولا ننكر قولهم : إن ذا الشمالين قتل ببدر إن ذكروا ذا الشمالين ; لأن ابن إسحاق وغيره من أهل السير ذكروه فيمن قتل ببدر من المسلمين .

5322 - وقال حماد بن سلمة عن علي ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قتل يوم بدر من قريش خمسة رجال من المهاجرين : عبيدة بن الحارث ، وعمير بن أبي وقاص ، وذو الشمالين ، وابن بيضاء ، ومهجع مولى عمر بن الخطاب .

[ ص: 340 ] 5323 - قال أبو عمر : إنما قال ابن المسيب : إنهم من قريش ; لأن الحليف والمولى يعد من القوم ، فمهجع مولى عمر ، وذو الشمالين حليف بني زهرة .

5324 - قال ابن إسحاق : ذو الشمالين هو عمير بن عبد عمرو بن نضلة بن عمرو بن غبشان بن سليم بن مالك بن أفصى بن خزاعة حليف لبني زهرة .

5325 - قال أبو عمر : ذو اليدين غير ذي الشمالين المقتول ببدر ; بدليل ما في حديث أبي هريرة ، ومن ذكرنا معه من حضورهم تلك الصلاة ممن كان إسلامه بعد بدر ، وكان المتكلم يومئذ رجلا من بني سليم .

5326 - ذكر ذلك يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة .

5327 - وقال عمران بن حسين : رجل طويل اليدين يقال له : الخرباق .

5328 - وممكن أن يكون رجلان أو ثلاثة وأكثر ، يقال لكل واحد منهم : ذو اليدين ، وذو الشمالين ، ولكن المقتول ببدر غير المتكلم في حديث أبي هريرة حين سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اثنتين .

5329 - قال أبو بكر الأثرم : سمعت مسدد بن مسرهد يقول : الذي قتل ببدر إنما هو ذو الشمالين بن عبد عمرو حليف بني زهرة ، وذو اليدين : رجل من العرب ، كان يكون بالبادية ، فيجيء ، فيصلي مع النبي ، عليه السلام .

5330 - قال أبو عمر : قول مسدد هذا قول أئمة أهل الحديث والسير . وهذا على ما ذكرنا عنهم .

5331 - وأما قول الزهري في هذا الحديث : إنه ذو الشمالين - فلم يتابع عليه ، وحمله الزهري على أنه المقتول يوم بدر ، فوهم فيه ، وغلط ، والغلط لا يسلم منه أحد .

[ ص: 341 ] 5332 - وقد اضطرب الزهري في إسناد حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين اضطرابا كثيرا قد ذكرناه في " التمهيد " .

5333 - وكان يقول : لم يسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السجدتين يومئذ ، فجهل ذلك .

5334 - وقد صح عن أبي هريرة من وجوه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجد يوم ذي اليدين بعد السلام سجدتين ، لم يختلف عن أبي هريرة في ذلك ، وإنما اختلف عنه في السلام من السجدتين .

5335 - وقد خفي ذلك على الزهري مع جلالته .

5336 - ولا أعلم أحدا من المصنفين عول على ابن شهاب في حديث ذي اليدين ، وإنما أخرجوه من غير روايته; لاضطرابه ، وقد تبين غلطه أنه المقتول ببدر .

5337 - ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج ، عن ابن مليكة أنه سمع عبيد بن عمير - وذكر خبر ذي اليدين - قال : فأدركه ذو اليدين أخو بني سليم ، وقد قيل : إن ذا اليدين عمر إلى خلافة معاوية ، وإنما توفي بذي خشب .

5338 - حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا علي بن بحر ، حدثنا معدي بن سليمان الشغنثي البصري ، قال : حدثني شعيب بن مطير ، ومطير حاضر يصدقه ، قال : يا أبتاه ، أخبرتني أن ذا اليدين لقيك بذي خشب ، فأخبرك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم إحدى صلاتي العشي ، فصلى ركعتين ، ثم سلم ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه أبو بكر وعمر ، وخرج سرعان الناس ، فلحقه ذو اليدين ، فقال : يا رسول الله ، أقصرت الصلاة أم [ ص: 242 ] نسيت ؟ فقال : " ما قصرت الصلاة ، ولا نسيت " ، ثم أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي بكر وعمر ، فقال : " أحق ما يقول ذو اليدين ؟ " ، قالا : صدق يا رسول الله ، فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثاب الناس ، فصلى ركعتين ، ثم سلم ، ثم سجد سجدتي السهو .

5339 - وقد ذكرنا هذا الخبر من طرق شتى في التمهيد .

5340 - ومطير هذا مطير بن سليم من أهل وادي القرى ، روى عن ذي اليدين ، وذي الزوائد ، وأبي الشموس البلوي ، وغيره . وروى عنه ابناه : شعيب ، وسليم ، وهو معروف عند أهل العلم لم يذكره أحد بجرحة .

5341 - ومعدي بن سليمان صاحب الطعام بصري ، يكنى أبا سليمان . يقال : إنه كان من الأبدال الفضلة . روى عنه العباس بن يزيد ، وبندار محمد بن بشار ، وعلي بن بحر بن بري ، وبشر بن علي ، ومحمد بن المثنى .

5342 - ولو صح للمخالفين ما ادعوه من نسخ حديث أبي هريرة بتحريم الكلام في الصلاة لم يكن لهم في ذلك حجة ; لأن النهي عن الكلام في الصلاة إنما توجه إلى العامد القاصد ، لا إلى الناسي ; لأن النسيان متجاوز عنه ، والناسي [ ص: 343 ] والساهي ليسا ممن دخل تحت النهي ; لاستحالة ذلك في النظر .

5342 م - فإن قيل : إنكم تجيزون الكلام في الصلاة عمدا إذا كان في شأن صلاحها ، قيل لقائل ذلك : أجزناه من باب آخر ، قياسا على ما نهي عنه من التسبيح في غير موضعه من الصلاة ، وإباحته للتنبيه على ما أغفله المصلي من صلاة ليستدركه ، استدلالا بقصة ذي اليدين .

5343 - قال أبو عمر : نزع أبو الفرج وغيره من أصحابنا بما وصفنا ، وليس ذلك عندي بشيء ; لأن التسبيح لا يقاس بالكلام ; لأن الصلاة محرم فيها الكلام ، ومباح فيها التسبيح .

5344 - وقد قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " من نابه شيء في صلاته فليسبح " يريد : ولا يتكلم .

5345 - وقال : " صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التسبيح ، وتلاوة القرآن " .

5346 - وقد نهى عن القراءة في الركوع ، ولو قرأ في الركوع أحد لم تفسد صلاته .

5347 - وأما أصحاب أبي حنيفة الذين لم يجيزوا الكلام في شأن إصلاح الصلاة - فيلزمهم ألا يجيزوا المشي للراعف ، والخروج من المسجد للوضوء ، وغسل الدم في الصلاة لضرورة الرعاف ، فإن أجازوا ذلك فليجيزوا الكلام في شأن إصلاح الصلاة . والله أعلم .

[ ص: 344 ] 5348 - وممن قال من السلف بمعنى حديث ذي اليدين ، ورأى البناء جائزا لمن تكلم في صلاته ، وهو يظن أنه ليس في صلاة - : عبد الله بن عباس ، وابن الزبير ، وعروة ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، والشعبي .

5349 - وروي أيضا عن الزبير بن العوام وأبي الدرداء ، وروي مثل قول الكوفيين في هذا الباب عن إبراهيم النخعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وقتادة على اختلاف عنه .

5350 - وفي هذا الحديث أيضا إثبات حجة مالك وأصحابه في قولهم : إذا نسي الحاكم حكمه ، فشهد عليه عنده شاهدان - إنه ينفذه ويمضيه ، وإن لم يذكره ; لأن النبي - عليه السلام - رجع إلى قول ذي اليدين ومن شهد معه إلى شيء لم يذكره .

5351 - وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا ينفذه حتى يذكر حكمه به على وجهه ; لأنه لا يقبل الشهود إلا على غيره لا على نفسه ; لأنهم لو شهدوا عنده بخلاف علمه لم يحكم بشهادتهم . ولا حجة في حديث ذي اليدين ; لأنه لم يحكم بشهادتهم . ممكن محتمل أن يكون النبي - عليه السلام - لما قال له أصحابه : إن ما ذكر ذو اليدين حق - تيقن ذلك ، فرجع من شكه إلى يقين ، وهذا مجتمع عليه في أصل الدين ; لأنه محال ألا يصدقهم ، ثم يعمل بخبرهم . وبالله التوفيق .

5352 - وفيه إثبات سجود السهو على من سها في صلاته . وفيه أن السجود [ ص: 245 ] يكون بعد السلام إذا كان زاد الإنسان في صلاته شيئا سهوا . وبه استدل أصحابنا على أن السجود بعد السلام فيما كان زيادة أبدا .

5353 - وفيه أن سجدتي السهو يكبر في كل خفض ورفع منهما ، ويسلم على حديث عمران بن حصين .

5354 - واختلف المتأخرون من أصحابنا في رجوع المسلم ساهيا في صلاته إلى تمام ما بقي عليه منها : هل يحتاج في ذلك إلى إحرام أم لا ؟ فقال بعضهم : لا بد أن يحدث إحراما يجدده لرجوعه إلى تمام صلاته ، وإن لم يفعل لم يجزه .

5355 - وقال آخرون : ليس ذلك عليه ، وإنما عليه أن ينوي الرجوع إلى تمام صلاته ، فإن كبر في رجوعه فحسن ; لأن التكبير إشعار حركات المصلي ، وإن لم يكبر فلا شيء عليه ; لأن أصل التكبير في غير الإحرام إنما كان للإمام ، ثم صار سنة بمواظبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لقي الله ، مع قوله : " فإذا كبر فكبروا " ، يعني يكبرون بتكبيره . وتكبير الصلوات محصور عدده ; فلا وجه للزيادة فيه ، ألا ترى أن الذي يحبسه الإمام لا يكبر إذا قام إلى قضاء ما عليه ; لأن تلك التكبيرة لو كبرها كانت زائدة على تكبير الصلاة ؟ . والله أعلم .

5356 - وإنما قلنا : إنه إذا نوى الرجوع إلى صلاته ليتمها فلا شيء عليه ، وإن لم يكبر لإحرام ولا غيره ; لأن سلامه ساهيا لا يخرجه من صلاته عندنا وعند جمهور العلماء ولا يفسدها عليه ، وإذا كان في صلاته بنى عليها ، فلا معنى للإحرام ; لأنه غير مستأنف لصلاة ، بل هو متمم لها بان فيها ، وإنما يؤمر بتكبيرة الإحرام من ابتدأ صلاته وافتتحها . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية