الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1587 [ ص: 257 ] بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليما

42 - كتاب الأشربة

باب الحد في الخمر

1564 - مالك ، عن ابن شهاب ، عن السائب بن يزيد ؛ أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال : إني وجدت من فلان ريح شراب ، فزعم أنه شراب الطلاء ، وأنا سائل عما شرب ، فإن كان يسكر جلدته : فجلده عمر الحد تاما .


[ ص: 258 ] 36281 - قال أبو عمر : هذا الإسناد أصح ما يروى من أخبار الآحاد .

36282 - وفي هذا الحديث من الفقه : وجوب الحد على من شرب مسكرا ، أسكر أو لم يسكر ، خمرا كان من خمر العنب أو نبيذا ؛ لأنه ليس في الحديث ذكر الخمر ، ولا أنه كان سكران ، وإنما فيه من قول عمر ؛ أن الشراب الذي شرب منه إن كان يسكر جلده الحد ، وهذا يدل على أنه كان شرابا لا يعلم أنه الخمر المحرم قليلها وكثيرها ، ولو كان ذلك ما سأل عنه .

36283 - وقد أجمعوا على أن قليل الخمر من العنب فيه من الحد مثل ما في كثيرها ، ولا يراعى السكر فيها ، وإنما اختلفوا فيما سواها من الأنبذة المسكرة ، على ما نذكره بعد ، إن شاء الله عز وجل .

36284 - وفيه القضاء بالحد على من وجد به ريح الخمر ، وهذا موضع اختلف فيه العلماء قديما .

36285 - فروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعبد الله بن مسعود ، وميمونة ، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يرون الحد على من وجد منه ريح الخمر .

[ ص: 259 ] 36286 - وهو قول مالك وأصحابه ، وجمهور أهل الحجاز ، إذا أقر شاربها أنها ريح خمر ، أو شهد عليه بذلك .

36287 - وكذلك عندهم ريح المسكر سواء ؛ لأن كل مسكر عندهم خمر ، على ما رووا في ذلك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وسيأتي بعد في موضعه من هذا الكتاب ، إن شاء الله عز وجل .

36288 - وخالفهم في ذلك جمهور أهل العراق ، وطائفة من أهل الحجاز ؛ فقالوا : لا حد على أحد في رائحة الخمر ، وهو يعقل ، ولا رائحة المسكر .

36289 - وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : الريح توجد من شارب الخمر ، وهو يعقل ، قال : لا حد إلا بالبينة ؛ قد تكون الرائحة من الشراب الذي ليس به بأس .

36290 - قال : وقال عمرو بن دينار : لا حد في الريح .

36291 - وبه قال الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما .

36292 - قال الشافعي : لا يحد الذي يوجد منه ريح الخمر إلا بأن يقول : [ ص: 260 ] شربت خمرا أو مسكرا ، أو يشهد بذلك عليه ، وسواء سكر أو لم يسكر ، قال : ولو شرب شرابا فلم يسكر ، وشرب من ذلك الشراب غيره فسكر ، كان عليهما جميعا الحد ؛ لأن كل واحد منهما شرب مسكرا .

36293 - وأما العراقيون ؛ إبراهيم النخعي ، وسفيان الثوري ، وابن أبي ليلى ، وشريك ، وابن شبرمة ، وأبو حنيفة ، وسائر فقهاء الكوفة ، وأكثر علماء البصرة ، فإنهم لا يرون في شرب المسكر حدا إلا على من سكر منه ، ولا يراعون الريح من الخمر ، ولا من المسكر .

36294 - قال : ولا يرون في الريح من ذلك كله حدا .

36295 - وهذا خلاف عن السلف من الصحابة ، الذين لم يخالفهم مثلهم .

36296 - وذكر أبو بكر ، قال : حدثني وكيع ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن السائب بن يزيد ، أن عمر - رضي الله عنه - كان يضرب في الريح .

36297 - وذكر عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : حدثنا ابن شهاب ، عن السائب بن يزيد أنه حضر عمر بن الخطاب ، وهو يجلد رجلا وجد منه ريح شراب ، فجلده الحد تماما .

36298 - قال أبو عمر : لم يسم مالك ، ولا ابن جريج ، في حديثهما هذا ، [ ص: 261 ] عن ابن شهاب ، الموجود منه ريح الشراب المجلود فيه ، وقد سماه في هذا الحديث ابن عيينة ، ومعمر .

36299 - روى الحميدي ، وغيره ، عن ابن عيينة ، عن الزهري ، عن السائب بن يزيد ، قال : قال عمر : ذكر لي أن عبيد الله وأصحابه ، شربوا شرابا بالشام ، وأنا سائل عنه ، فإن كان مسكرا جلدتهم .

قال ابن عيينة : وحدثني معمر ، عن الزهري ، عن السائب بن يزيد ، قال : رأيت عمر حدهم .

36300 - قال أبو عمر : حديث ابن عيينة هذا ليس فيه أنه جلدهم في ريح الشراب ، بل ظاهره أنه حدهم بما ذكر له ، وهي الشهادة ، ولكن ابن عيينة لم يأت بالحديث على وجهه ، والله أعلم .

36301 - وقد ذكر عبد الرزاق هذا الخبر ، فقال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن السائب بن يزيد ، قال : شاهدت عمر بن الخطاب صلى على جنازة ، ثم أقبل علينا ، فقال : إني وجدت من عبيد الله بن عمر ريح شراب ، وإني سألته عنهما ، فزعم أنه الطلاء ، وإني سائل عن الشراب الذي شربه ، فإن كان مسكرا جلدته ، قال : فشهدته بعد ذلك يجلده .

[ ص: 262 ] 36302 - قال أبو عمر : قد جود معمر ، ومالك هذا الحديث عن عمر .

36303 - وأما حديث ابن مسعود ، فذكره عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، وذكره أبو بكر ، عن أبي معاوية ، كلاهما عن الأعمش ، عن إبراهيم النخعي ، عن علقمة بن قيس ، واللفظ لحديث أبي بكر ؛ قال قرأ عبد الله بن مسعود بحمص سورة يوسف ، فقال رجل : ما هكذا أنزلت ، فدنا منه عبد الله فوجد منه ريح الخمر ، فقال له : تكذب بالحق ، وتشرب الرجس ، والله لهكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا أدعك حتى أحدك ، فجلده الحد .

36304 - وذكر أبو بكر ، قال : حدثني كثير بن هشام ، عن جعفر بن برقان ، عن يزيد بن الأصم ، أن ذا قرابة لميمونة دخل عليها ، فوجدت منه ريح شراب ، فقالت : لئن لم تخرج إلى المسلمين فيحدونك ، ويطهرك ربك ، لا تدخل علي بيتي أبدا .

36305 - وذكر أبو بكر ، قال : حدثني يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، قال : كتبت إلى ابن الزبير ، أسأله عن الرجل يوجد منه ريح الشراب ، فقال : إن كان مدمنا فأحدوه .

[ ص: 263 ] 36306 - وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، قال : سمعت ابن أبي مليكة مثله بمعناه .

36307 - وذكره وكيع ، عن محمد بن شريك ، عن ابن أبي مليكة ، قال : أتيت برجل يوجد منه ريح الخمر ، وأنا قاض على الطائف فأردت أن أضربه ، فقال : إنما أكلت فاكهة ، فكتبت إلى ابن الزبير فكتب إلي : إن كان من الفاكهة ما يشبه ريح الخمر فادرأ عنه الحد .

36308 - قال أبو عمر : ذكرت هذه الآثار عن السلف ؛ لنقف على أن ما ذكره ابن قتيبة في كتاب " الأشربة " ، وذكرته طائفة من أصحاب أبي حنيفة ، انفرد برأيه في حد الذي يوجد منه ريح الخمر ، وأنه ليس له في ذلك سلف ، وهذا جهل واضح ، وتجاهل أو مكابرة .

36309 - قال أبو عمر : أقوى ما احتج به من لم ير في ريح الشراب حدا ، لا من الفاكهة مثل التفاح ، والسفرجل ، وشبهها ، قد يوجد من أكلها رائحة تشبه ريح الخمر ، وتلك شبهة تمنع من إقامة الحد في الريح ؛ لأن الأصل أن ظهر المؤمن حمى ، لا يستباح إلا بيقين دون الشبهة والظنون .

36310 - قال أبو عمر : حديث ابن شهاب المذكور في أول هذا الباب عن عمر - رضي الله عنه - هو في عبيد الله ابنه ، ولعبد الرحمن ابنه المعروف بأبي [ ص: 264 ] شحمة من بنيه قصة في شرب الخمر ، جلده فيها بمصر عمرو بن العاص ، ثم جلده عمر بعده .

36311 - والحديث بذلك عند الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، رواه معمر ، وابن جريج ، عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، قال : شرب عبد الرحمن بن عمر بمصر خمرا - قال : كذا قال معمر ، وقال ابن جريج : شرابا مسكرا - في فتية منهم أبو سروعة عقبة بن الحارث ، فحدهم عمرو بن العاص ، وبلغ ذلك عمر ، فكتب إلى عمرو : أن ابعث إلي بابني عبد الرحمن على قتب ، فلما قدم عليه جلده عمر بيده الحد .

قال ابن عمر : فزعم الناس أنه مات من ضرب عمر ، ولم يمت من ضربه .

36312 - قال أبو عمر : جاء عن الشعبي عن يحيى بن أبي كثير - وهو شيء منقطع - أن عمر ضرب ابنه حدا ، فأتاه وهو يموت ، فقال : يا أبتي قتلتني ، فقال له : إذا لاقيت ربك فأخبره أن عمر يقيم الحدود .

36313 - وليس في هذا الخبر ما يقطع به على موته لو صح ، وحديث ابن عمر أصح .

التالي السابق


الخدمات العلمية