الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1588 [ ص: 265 ] 1565 - مالك ، عن ثور بن زيد الديلي ؛ أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل ، فقال له علي بن أبي طالب : نرى أن تجلده ثمانين ، فإنه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، أو كما قال . فجلد عمر في الخمر ثمانين .


36314 - قال أبو عمر : هذا حديث منقطع من رواية مالك ، وقد روي متصلا من حديث ابن عباس .

36315 - ذكره الطحاوي ، في كتاب " أحكام القرآن " ، قال : حدثني بهز بن سليمان ، قال : حدثني سعيد بن كثير ، قال : حدثني محمد بن فليح ، عن ثور بن زيد الديلي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن الشراب كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي ، وبالنعال ، وبالعصي حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : لو فرضنا لهم حدا يتوخى نحو ما كانوا يضربون عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فكان أبو بكر يجلدهم أربعين ، ثم كان عمر يجلدهم كذلك أربعين ، حتى أتي برجل من المهاجرين الأولين ، وقد شرب ، فأمر به أن يجلد ، فقال له : لم تجلدني ؟ بيني وبينك كتاب الله عز وجل ، فقال عمر : في أي كتاب الله عز وجل وجدت لا أجلدك ؟ فقال إن الله عز وجل يقول في كتابه : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ) الآية [ المائدة : 93 ] ، فأنا من الذين اتقوا ، وآمنوا ، وعملوا الصالحات ، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ، [ ص: 266 ] شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا ، وأحدا ، والخندق ، والمشاهد ، فقال عمر : ألا تردون عليه ما يقول ؟ فقال ابن عباس : إن هؤلاء الآيات نزلن عذرا للماضين ، وحجة على الباقين ، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله عز وجل قبل أن يحرم عليهم الخمر ، وحجة على الباقين ؛ لأن الله عز وجل يقول : ( ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) [ المائدة : 90 ] ، ثم قرأ إلى قوله ( فهل أنتم منتهون ) ، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ، إن الله - عز وجل - قد نهى أن يشرب الخمر . قال عمر : صدقت ، من اتقى اجتنب ما حرم الله تعالى عليه ، قال عمر : فماذا ترون ؟ قال علي رضي الله عنه : إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وعلى المفتري ثمانون جلدة ، فأمر به عمر فجلده ثمانين .

36316 - وذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثني ابن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي ، قال : شرب قوم من أهل الشام الخمرة ، وعليهم يزيد بن أبي سفيان ، وقالوا : هي لنا حلال ، وتأولوا هذه الآية : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا . . ) الآية [ المائدة : 93 ] قال : فكتب فيهم إلى عمر ، فكتب أن ابعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك ، فلما قدموا على عمر استشار فيهم الناس ، فقالوا : يا أمير المؤمنين أن قد كذبوا على الله عز وجل ، وشرعوا في دينه ما لم يأذن به الله عز وجل ، فاضرب رقابهم ، وعلي [ ص: 267 ] ساكت ، فقال : ما تقول يا أبا الحسن فيهم ؟ قال : أرى أن تستتيبهم ، فإن تابوا جلدتهم ثمانين ؛ لشربهم الخمر ، وإن لم يتوبوا ضربت أعناقهم ؛ فإنهم كذبوا على الله عز وجل ، وشرعوا في دينه ما لم يأذن به الله عز وجل فاستتابهم فتابوا ، فضربهم ثمانين .

36317 - وروى ابن وهب ، وروح بن عبادة ، كلاهما قالا : حدثني أسامة بن زيد الليثي ، أن ابن شهاب حدثه عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، أنه أخبره أن رجلا من كلب أخبره أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كان يجلد في الخمر أربعين ، وكان عمر - رضي الله عنه - يجلد فيها أربعين .

قال : فبعثني خالد بن الوليد إلى عمر ، فقدمت عليه ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، إن خالدا بعثني إليك ، قال فيما قلت : إن الناس قد استخفوا العقوبة في الخمر ، وأنهم انهمكوا ، فما ترى في ذلك ؟ فقالعمر لمن حوله ، وكان عنده علي ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم : ما ترون في ذلك ؟ ما ترى يا أبا الحسن ؟ فقال علي رضي الله عنه : نرى - يا أمير المؤمنين - أن نجلد فيه ثمانين جلدة ؛ فإنه إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وعلى المفتري ثمانون جلدة ، فتابعه أصحابه ، فقبل ذلك عمر ، فكان خالد أول من جلد ثمانين ، ثم جلد عمر ناسا ثمانين .

[ ص: 268 ] 36318 - وكان علي - رضي الله عنه - يقول : في قليل الخمر وكثيرها ثمانون جلدة .

36319 - قال أبو عمر : رأى علي ، ومن تابعه من الصحابة عند انهماك الناس في الخمر ، واستخفافهم العقوبة فيها ، أن يردعوهم عن ما حرم الله عز وجل عليهم ، ولم يجدوا في القرآن حدا أقل من حد القذف ، فقاسوه عليه ، وامتثلوه فيه ، وما فعلوه فسنة ماضية ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " ، وقوله : اقتدوا باللذين من بعدي : أبو بكر ، وعمر .

[ ص: 269 ] 36320 - وللكلام في هذا المعنى موضع غير هذا .

36321 - وأما اختلاف الفقهاء في مبلغ الحد في شارب الخمر ؛

36322 - فالجمهور من علماء السلف والخلف على أن الحد في ذلك ثمانون جلدة .

36323 - فهذا قول مالك وأصحابه ، وأبي حنيفة وأصحابه .

36324 - وهو أحد قولي الشافعي .

36325 - وقول سفيان الثوري ، والأوزاعي ، وعبيد الله بن الحسن ، والحسن بن حي ، وأحمد ، وإسحاق .

36326 - وحجتهم اتفاق السلف على ما وصفنا .

36327 - قال أبو ثور ، وداود ، وأكثر أهل الظاهر : الحد في الخمر أربعون جلدة على الحر والعبد .

36328 - وقال الشافعي : أربعون على الحر ، وعلى العبد نصفها .

36329 - وذكر المزني ، عن الشافعي ، إن ضرب الإمام في الخمر أربعين فما دونها ، فمات المضروب ، فالحق قتله ، فإن زاد على الأربعين فمات ، فالدية على [ ص: 270 ] عاقلته .

36330 - قال أبو عمر : الأصل في حد الخمر ما قدمنا ذكره في حديث ثور بن زيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنهم كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضربون في الخمر بالأيدي ، والنعال والعصي ، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضرب فيها أبو بكر أربعين ، عن مشورة منه في ذلك للصحابة ؛ لما انهمك الناس في شربها .

36331 - قال أبو عمر : ثم زاد انهماكهم في شربها في زمن عمر ، فشاور الصحابة في الحد فيها ، فأشار علي بثمانين جلدة ، ولم يخالفوه ، فأمضى عمر ثمانين جلدة .

36332 - وما رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن ، ومحمد بن إبراهيم بن الحارث ، والزهري ، ومحمد بن مسلم بن شهاب ، عن عبد الرحمن بن أزهر ، قال : أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بشارب يوم حنين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للناس : " قوموا إليه " . فقام إليه الناس فضربوه بنعالهم .

36333 - ذكره أبو بكر ، قال : حدثني محمد بن بشر ، قال : حدثني [ ص: 271 ] محمد بن عمر ، قال : حدثني أبو سلمة ، ومحمد بن إبراهيم ، والزهري ، عن عبد الرحمن بن أزهر .

36334 - وروى معمر ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن أزهر ، أن أبا بكر الصديق شاور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم : كم بلغ ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لشارب الخمر ؟ فقدروه بأربعين جلدة .

36335 - وذكر أبو بكر ، قال : حدثني يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا المسعودي ، عن زيد العمي ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بنعلين أربعين ، فجعل عمر مكان كل نعل سوطا .

36336 - قال : وحدثني وكيع ، عن مسعر ، عن زيد العمي ، عن أبي الصديق الناجي ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضرب في الخمر أربعين .

36337 - قال أبو عمر : مسعر أحفظ عندهم وأثبت من المسعودي ، [ ص: 272 ] والحديث لأبي الصديق عن أبي سعيد - والله أعلم - على أن زيدا العمي ليس [ ص: 273 ] بالقوي .

36338 - وأثبت شيء في هذا الباب ما رواه عبد الله الداناج ، وهو عبد الله بن فيروز ، من ثقاة أهل البصرة ، والداناج بالفارسية : العالم بالعربية - عن أبي ساسان بن المنذر ، عن علي - رضي الله عنه - أنه قال في حين جلد الوليد بن عقبة : جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين ، وجلد أبو بكر أربعين ، وجلد عمر ثمانين ، وكل سنة .

36339 - وإلى هذا ذهب الشافعي - رحمه الله - وله قول آخر مثل قول مالك ، وهما يحملان عنه جميعا .

36340 - ذكر حديث الداناج أبو بكر ؛ قال : حدثني ابن علية ، قال : حدثني سعيد بن أبي عروبة ، عن عبد الله الداناج ، فذكره .

[ ص: 274 ] 36341 - وأما قول علي رضي الله عنه : في قليل الخمر وكثيرها ثمانون جلدة ؛ فإن أهل العلم مجمعون ؛ من صدر الإسلام إلى اليوم ، أن الحد واجب في قليل الخمر وكثيرها ، إلا إذا كانت خمر عنب ، على من شرب شيئا منها فأقر به ، أو شهد عليه بأنه شربها ، لا يختلفون في ذلك ، وإن كانوا قد اختلفوا في مبلغ الحد على ما قدمنا ذكره .

36342 - وكذلك أجمعوا أن عصير العنب إذا غلا واشتد ، وقذف بالزبد ، وأسكر الكثير منه أو القليل ، أنه الخمر المحرمة بالكتاب ، والسنة المجتمع عليها ، وأن مستحلها كافر ، يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل .

36343 - هذا كله ما لا خلاف فيه بين أئمة الفتوى ، وسائر العلماء .

36344 - واختلفوا في شارب المسكر من غير خمر العنب ، إذا لم يسكر .

36345 - فأهل الحجاز يرون المسكر حراما ، ويرون في قليله الحد - كما في كثيره - على من شربه .

36346 - وبه قال مالك ، والشافعي وأصحابهما ، وجماعة أهل الحجاز ، وأهل الحديث من أهل العراق .

36347 - وأما فقهاء العراق ؛ فجمهورهم لا يرون في المسكر على من شربه [ ص: 275 ] حدا إذا لم يسكر ، ولا يدعون ما عدا خمر العنب خمرا ، ويدعونه نبيذا .

36348 - وسنذكر الحجة لأهل الحجاز في قولهم هذا ؛ إذ هو الصحيح عندنا في هذا الباب ، عند قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن البتع ، وهو شراب العسل ، فقال صلى الله عليه وسلم : " كل شراب أسكر فهو حرام " .

36349 - وأما اختلاف العلماء في حد عصير العنب ، الذي إذا بلغه كان خمرا ، فاختلاف متقارب ، فنذكره هنا ؛ لتكمل فائدة الكتاب بذلك .

36350 - روى أبو القاسم ، عن مالك ، أنه كان لا يعتبر الغليان في عصير العنب ، ولا يلتفت إليه ولا إلى ذهاب الثلثين في المطبوخ وقال أنا أحد كل من شرب شيئا من عصير العنب ، وإن قل ؛ إذا كان يسكر منه .

36351 - وهو قول الشافعي .

36352 - قال الليث بن سعد : لا بأس بشرب عصير العنب ما لم يغل ، ولا بأس بشرب مطبوخه إذا ذهب الثلثان ، وبقي الثلث .

36353 - وقال سفيان الثوري : اشرب عصير العنب حتى يغلي ، وغليانه أن يقذف بالزبد ، فإذا غلى فهو خمر .

36354 - وهو قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد وزفر ، إلا أن [ ص: 276 ] أبا يوسف قال : إذا غلى فهو خمر .

36355 - وقال أبو حنيفة : لا بأس به ما لم يقذف بالزبد .

36356 - وقالوا : إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ، ويبقى الثلث ، ثم غلى بعد ذلك ، فلا بأس به ؛ لأنه قد خرج من الحال المكروهة الحرام إلى حال الحلال ، فسواء غلى بعد ذلك ، أو لم يغل .

36357 - وقال أحمد بن حنبل : العصير إذا أتت عليه ثلاثة أيام فقد حرم إلا أن يغلي قبل ذلك ؛ فيحرم .

36358 - قال : وكذلك النبيذ .

36359 - قال أبو عمر : روينا عن سعيد بن المسيب ، أنه لا بأس بشرب العصير ما لم يزبد ، وإذا أزبد فهو حرام .

36360 - هذه رواية يزيد بن قسيط عنه .

36361 - وروي عن قتادة : اشربه ما لم يغل ، فإذا غلى فهو خمر .

36362 - وكذلك قال إبراهيم النخعي ، وعامر الشعبي .

36363 - وقال الحسن : اشربه ما لم يتغير .

36364 - وقال سعيد بن جبير : اشربه يوما وليلة .

[ ص: 277 ] 36365 - وروي ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي .

36366 - وعن عطاء ، وابن سيرين ، والشعبي ، وعن عطاء أيضا : اشربه ثلاثا ما لم يغل .

36367 - وقال ابن عباس : اشربه ما كان طريا .

36368 - وقال ابن عمر : اشربه ما لم يأخذه شيطانه . قيل له : ومتى يأخذه شيطانه ؟ قال : في ثلاث .

36369 - قال أبو عمر : انعقد إجماع الصحابة - رضوان الله عليهم - في زمن عمر - رضي الله عنه - على الثمانين في حد الخمر ، ولا مخالف لهم منهم ، وعلى ذلك جماعة التابعين ، وجمهور فقهاء المسلمين ، والخلاف في ذلك كالشذوذ المحجوج بالجمهور .

36370 - وقد أجمع الصحابة ، ومن بعدهم على حرف واحد من السبعة الأحرف ، التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزل القرآن عليها ، ومنعوا ما عدا مصحف عثمان منها ، وانعقد الإجماع على ذلك ، فلزمت الحجة به ؛ لقول الله عز وجل : [ ص: 278 ] ( ويتبع غير سبيل المؤمنين . . ) الآية [ النساء : 115 ] .

36371 - وقال ابن مسعود : ما رآه المسلمون حسنا ، فهو عند الله عز وجل حسن .

36372 - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي " .

التالي السابق


الخدمات العلمية