الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1598 [ ص: 311 ] ( 5 ) باب جامع تحريم الخمر

1575 - مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن وعلة المصري ؛ أنه سأل [ ص: 312 ] عبد الله بن عباس عما يعصر من العنب ؟ فقال ابن عباس : أهدى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما علمت أن الله حرمها ؟ قال : لا ، فساره رجل إلى جنبه ، فقال له صلى الله عليه وسلم بم ساررته ؟ فقال : أمرته أن يبيعها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الذي حرم شربها [ ص: 313 ] حرم بيعها " ففتح الرجل المزادتين ، حتى ذهب ما فيهما .


36514 - قال أبو عمر : في هذا الحديث ، دليل على أن الخمر لا يجوز لأحد تخليلها ، ولو جاز لمسلم تخليلها ، ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع الرجل يفتح من أذنيه حتى يذهب ما فيها منها ؛ لأن الخل مال ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال .

36515 - وقد اختلف الفقهاء في تخليل الخمر ؛

36516 - فقال مالك ، فيما روى عنه ابن القاسم ، وابن وهب : لا يحل لمسلم أن يخلل الخمر ، ولكن يهريقها ، فإن صارت خلا بغير علاج فهي حلال ، لا بأس بها .

36517 - وهو قول الشافعي ، وعبيد الله بن الحسن العنبري ، وأحمد بن حنبل .

36518 - وروى أشهب عن مالك ، قال : إذا خلل النصراني خمرا فلا بأس [ ص: 314 ] بأكله ، قال : وكذلك لو خللها مسلم ، واستغفر الله - تعالى .

36519 - وذكر ابن عبد الحكم هذه الرواية في كتابه عن مالك ، وهي رواية سوء ، بخلاف السنة ، وأقوال الصحابة .

36520 - والذي يصح في تخليل الخمر ، عن مالك ، ما رواه ابن وهب ، وابن القاسم ، عن مالك ، قال ابن وهب : سمعت مالكا يقول في رجل اشترى خلا ، فوجد فيها قلة خمر ، قال : لا يجعل فيها شيئا ليخللها .

36521 - قال : ولا يحل لمسلم أن يعالج الخمر حتى يجعله خلا ، ولكن يهرقها ، فإن صارت خلا - من غير علاج - فإنها حلال ، لا بأس بها ، إن شاء الله عز وجل .

36522 - قال ابن وهب : وهو قول عمر بن الخطاب ، والزهري ، وربيعه .

36523 - قال ابن وهب : حدثني ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، عن القاسم بن محمد ، عن أسلم مولى عمر ، عن عمر بن الخطاب ، قال : لا تأكل خمرا فسدت ، ولا شيء منها ، حتى يكون الله عز وجل تولى إفسادها .

36524 - قال : وحدثني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : لا خير في خل من [ ص: 315 ] خمر أفسدت ، حتى يكون الله عز وجل يفسدها .

36525 - قال أبو عمر : أجاز أبو حنيفة تخليلها ، وأن يصنع منها مري .

36526 - وروي في ذلك عن أبي الدرداء رواية ليست بصحيحة .

36527 - وقال محمد بن الحسن : لا تعالج الخمر بغير تحويلها إلى الخل .

36528 - قال أبو عمر : لا يصح في هذه المسألة إلا ما قاله مالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، ومن قال بقولهم أنه لا يحل تخليل الخمر ، ولا تؤكل إن خللها أحد ، ولكن إن عادت خلا بغير صنع آدمي ، فحلال أكلها .

36529 - والدليل على صحة ما قلنا ؛ ما حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثني محمد بن بكر ، قال حدثني أبو داود ، قال حدثني زهير بن حرب ، قال : حدثني وكيع ، وحدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثني قاسم بن أصبغ ، قال : حدثني محمد بن وضاح ، قال : حدثني أبو بكر بن أبي شيبة ، قال حدثني عبد الرحمن بن مهدي ، كلاهما عن سفيان الثوري ، عن السدي ، عن أبي هبيرة يحيى بن عباد ، عن أنس بن مالك ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر تتخذ خلا ، قال : " لا " .

[ ص: 316 ] 36530 - هذا لفظ حديث قاسم .

36531 - ولفظ حديث أبي داود بإسناده ، عن أنس ، أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا ، قال : " أهرقها " ، قال : أفلا أجعلها خلا ؟ قال : لا .

36532 - وروى مجالد ، عن الوداك ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : كان عندي خمر لأيتام ، فلما نزل تحريم الخمر أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نهرقها .

36533 - وروى الحسن ، عن عثمان ، عن أبي العاص ، أن تاجرا اشترى من نصراني خمرا ، فأمره أن يصبها في دجلة ، فنهاه عن ذلك ، قال : اجعلها خلا .

36534 - قال أبو عمر : هذا هو الصحيح من جهة النظر أيضا ؛ لأنه لا يستقر ملك مسلم على خمر ، ولا يثبت عليها ملك بحال ، كما لا يثبت له ساعة ملك الخنزير ، ولا دم ، ولا صنم ، فكيف يحللها ؟ .

36535 - وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الخمر ، في حديث هذا الباب : إن [ ص: 317 ] الذي حرم شربها ، حرم بيعها " .

36536 - وهذا إجماع من المسلمين كافة عن كافة ؛ أنه لا يحل لمسلم بيع الخمر ، ولا التجارة في الخمر .

36537 - أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثني محمد ، قال : حدثني أبو داود ، قال : حدثني قتيبة ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح بمكة : " إن الله عز وجل حرم بيع الخمر ، والميتة ، والأصنام " .

36538 - قال أبو داود : وحدثني أحمد بن صالح ، قال : حدثني ابن وهب ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عبد الوهاب بن بخت ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم الخمر ، وثمنها ، وحرم [ ص: 318 ] الميتة ، وحرم الخنزير ، وثمنه .

36539 - وروى هشيم ، ومحمد بن بشر كلاهما قالا : حدثني مطيع بن عبد الله الغزال ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن عمر ، عن أبيه عمر بن الخطاب ، قال : لا تحل التجارة في شيء لا يحل أكله ولا شربه .

36540 - قال أبو عمر : هذا كلام خرج على المطعومات والمشروبات دون الحيوان ؛ بدليل الإجماع في الحمار الأهلي وما كان مثله ، أنه يحل بيعه ؛ لما كان فيه من المنفعة ، ولا يحل أكله .

36541 - وقد ذكرنا في " التمهيد " حديث عبد الرحمن بن غنم ، عن تميم الداري ، أنه كان يهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم راوية من خمر كل سنة ، فلما كان العام الذي حرمت ، جاء براوية منها ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك وقال : " هل شعرت أن الله عز وجل حرمها " وقال : " إنها قد حرمت " ، فقال : يا رسول الله ، أفلا أبيعها وأنتفع بثمنها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله اليهود " ثلاث مرات " انطلقوا إلى ما حرم الله عليهم من شحوم البقر والغنم ؛ فأذابوه وجعلوه إهالة ، فابتاعوا به ما يأكلون " ، وقال عليه السلام : " الخمر حرام ، وثمنها [ ص: 319 ] حرام " .

36542 - وروى معمر ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : لما حرمت الخمر ، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كان عندي مال ليتيم ، فاشتريت به خمرا ، أفتأذن لي أن أبيعها ، فأرد على اليتيم ماله ؟ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم ، فباعوها وأكلوا ثمنها " ولم يأذن له في بيع الخمر .

التالي السابق


الخدمات العلمية