الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1603 [ ص: 20 ] ( 3 ) باب ما جاء في دية العمد إذا قبلت وجناية المجنون 1582 - مالك ، أن ابن شهاب كان يقول : في دية العمد إذا قبلت خمس وعشرون بنت مخاض ، وخمس وعشرون بنت لبون ، وخمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة .


36640 - قال أبو عمر : ليس عند مالك في قتل العمد دية معلومة ، وإنما فيه القود ، إلا في عهد الرجل إلى ابنه بالضرب والأدب في حين الغضب ، كما صنع المدلجي بابنه ، فإن فيه عنده الدية المغلظة ، ولا قود ، وسنذكر ذلك في ما بعد ، إن شاء الله عز وجل .

36641 - فإن اصطلح القاتل عمدا وولي المقتول على الدية ، وأبهموا ذلك ، ولم يذكروا شيئا من ذلك بعينه ، أو عفي عن القاتل عمدا ، على الدية هكذا ، وكان من أهل الإبل ، فإن الدية تكون عليه حينئذ حالة في ماله أرباعا ، كما قال ابن شهاب : خمس وعشرون بنت لبون ، وخمس وعشرون بنت [ ص: 21 ] مخاض ، وخمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة ، وإن كان من أهل الذهب ، فألف دينار ، وإن كان من أهل الورق ، فاثنا عشر ألف درهم ، حالة في ماله ، لا يزاد على ذلك ، ولا ينقص منه إلا أن يصطلحا على شيء ، فيلزمهما ما اصطلحا عليه .

36642 - وقد روي عن مالك ، أن الدية في العمد ، إذا قبلت تكون مؤجلة كدية الخطأ ، في ثلاث سنين .

36643 - والأول قول ابن القاسم وروايته ، وهو تحصيل المذهب .

36644 - والدية في مذهب مالك ثلاث : إحداهما : دية العمد ، إذا قبلت أرباعا ، وهي كما وصفنا .

وهو قول ابن شهاب ، وربيعة والثانية : دية الخطأ أخماسا ، وسيأتي ذكرها - كما وصفنا - في بابها إن شاء الله عزوجل . والثالثة : الدية المغلظة أثلاثا ، ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة وهي الحواميل .

36645 - وليست عنده إلا في قتل الرجل ابنه ، على الوصف الذي ذكرنا .

36646 - وأما لو أضجع الرجل ابنه ، فذبحه ، أو جلله بالسيف ، أو أثر الضرب عليه بالعصا أو غيرها حتى قتله عامدا ، فإنه يقتل عنده به .

36647 - وستأتي هذه المسألة ، وما للعلماء فيها في موضعها من هذا الكتاب .

[ ص: 22 ] إن شاء الله عز وجل .

36648 - وليس يعرف مالك شبه العمد ، إلا في الأب يفعل بابنه ما وصفنا خاصة .

36649 - وإنما تجب الدية المغلظة المذكورة من الإبل على الأب ، إذا كان من أهل الإبل ، فإن كان من أهل الأمصار ، فالذهب أو الورق .

36650 - واختلف قوله في تغليظ دية الذهب والورق في ذلك .

36651 - فروي عنه أن تغليظها ، أن تقوم الثلاثون حقة ، والثلاثون جذعة ، والأربعون الخلفة بالدنانير أو الدرهم ، بالغا ما بلغت ، وإن زادت على ألف دينار ، أو اثني عشر ألف درهم .

36652 - وروي عنه أن التغليظ في ذلك ، أن ينظر إلى قيمة دية الخطأ أخماسا في أسنان الإبل ، ثم ينظر إذا ما زادت قيمة دية التغليظ من الإبل على قيمة دية الخطأ ، فيزاد مثل ذلك من الذهب والورق .

36653 - وهذا مذهب ابن القاسم .

36654 - وروي عنه أيضا أنها تغلظ ، بأن تبلغ دية وثلثا ، يزداد في الدية ثلثها .

36655 - رواه أهل المدينة عنه .

36656 - وقد روي عن مالك ، أن الدية لا تغلظ على أهل الذهب ، ولا على أهل الورق ، وإنما تغلظ في الإبل خاصة على أهل الإبل .

[ ص: 23 ] 36657 - قال أبو عمر : روى سفيان ، عن معمر ، عن رجل ، عن عكرمة ، قال : ليس في دية الدنانير والدراهم مغلظة ، إنما المغلظة في الإبل خاصة على أهل الإبل .

36658 - وروى ابن المبارك ، عن أبي حنيفة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، قال لا يكون التغليظ في شيء من الدية إلا في الإبل ، والتغليظ في إناث الإبل .

36659 - وأما الشافعي ، فالدية عنده ، اثنتان لا ثالثة لهما ، مخففة ومغلظة ، فالمخففة ، دية الخطأ أخماسا ، والمغلظة ، في شبه العمد ، وفي ما لا قصاص فيه ، كالأب ، ومن جرى مجراه عنده ، وفي العمد إذا قبلت الدية فيه ، وعفي عن القاتل عليها ، وهي ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة .

36660 - وهو قول سفيان ، ومحمد بن الحسن ، في أسنان دية شبه العمد .

36661 - وهذه الأسنان في ذلك مذهب عمر بن الخطاب ، وأبي موسى الأشعري ، والمغيرة بن شعبة ، وزيد بن ثابت ، على اختلاف عنه .

36662 - وبه قال عطاء .

36663 - وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مادل على ذلك .

36664 - ذكر أبو بكر ، قال : حدثني وكيع ، قال : حدثني سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن عمر ، أنه قال : في شبه العمد ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة ، ما بين ثنية إلى بازل عامها ، كلها خلفة .

[ ص: 24 ] 36665 - قال : وحدثني جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، قال : كان أبو موسى ، والمغيرة يقولان : في الدية المغلظة ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون ثنية إلى بازل عامها ، كلها خلفة .

36666 - قال : وحدثني وكيع ، قال : حدثني ابن أبي خالد ، عن عامر الشعبي ، قال : كان زيد بن ثابت ، يقول : في شبه العمد ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة ، ما بين ثنية إلى بازل عامها ، كلها خلفة .

36667 - وأما الحديث المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد ، ما كان بالسوط والعصا والحجر ، ديته مغلظة ، مائة من الإبل ، منها أربعون في بطونها أولادها " فهو حديث مضطرب ، لا يثبت من جهة الإسناد ، رواه ابن [ ص: 25 ] عيينة ، عن علي بن زيد ، عن القاسم بن ربيعة ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم .

36668 - ورواه سفيان الثوري ، وهشيم عن خالد الحذاء ، عن القاسم بن ربيعة ، عن عقبة بن أوس ، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم .

36669 - ورواه حماد بن زيد ، عن خالد الحذاء ، عن القاسم بن ربيعة ، عن عقبة بن أوس ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم .

36670 - والقاسم بن ربيعة بن جوشن الغطفاني ثقة بصري ، يروي عن عمر ، وعبد الرحمن بن عوف ، وابن عمر ، وروى عنه أيوب ، وقتادة ، وحميد الطويل ، وعلي بن زيد .

36671 - وأما عقبة بن أوس ، فرجل مجهول ، لم يرو عنه إلا القاسم بن ربيعة فيما علمت ، يقال فيه : الدوسي ، ويقال فيه : السدوسي .

36672 - وقد قيل فيه : يعقوب بن أوس .

36673 - وقال يحيى بن معين : عقبة بن أوس هو يعقوب بن أوس .

36674 - وأما أبو حنيفة وأصحابه ، فليس في العمد عندهم دية ، فإن اصطلح القاتل وولي المقتول على شيء ، فهو حال ، إلا أن يشترطوا أجلا .

36675 - والديات عندهم اثنتان : دية الخطأ أخماسا ، على ما يأتي ذكره في بابه بعد هذا ، لم يختلفوا فيها .

[ ص: 26 ] 36676 - ودية شبه العمد عند أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، تكون أرباعا ، خمس وعشرون بنت لبون ، وخمس وعشرون بنت مخاض ، وخمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة .

36677 - وهو مذهب عبد الله بن مسعود .

36678 - ذكره وكيع ، قال : وحدثني ابن أبي خالد ، عن عامر ، قال : كان ابن مسعود يقول : في شبه العمد أرباعا ، فذكر ما تقدم .

36679 - وقال أبو بكر : حدثني أبو الأحوص عن أبي إسحاق ، عن علقمة ، والأسود بن عبد الله ، قال : شبه العمد أرباعا ، خمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة ، وخمس وعشرون بنت مخاض ، وخمس وعشرون بنت لبون .

36680 - وأما محمد بن الحسن ، فذهب إلى ما روي عن عمر ، وأبي موسى ، وزيد ، والمغيرة ، وقد تقدم ذكره .

36681 - وأما أحمد بن حنبل ، فقال : دية الحر المسلم ، مائة من الإبل ، فإن كان القتل عمدا ، وارتفع القصاص ، أو قبلت الدية ، فهي في مال القاتل حالة أرباعا ، خمس وعشرون بنت مخاض ، وخمس وعشرون بنت لبون ، وخمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة .

36682 - قال : وإن كان القتل شبه العمد ، فكما وصفنا في أسنان الإبل .

[ ص: 27 ] 36683 - قال : وهي على العاقلة في ثلاث سنين ، في كل سنة ثلثها .

36684 - ذهب في ذلك مذهب ابن مسعود ، وهذا يدل على أنه لم يصح عنده الحديث المرفوع ، لما ذكرنا فيه من الاضطراب ، وجهل عقبة بن أوس - والله الموفق للصواب .

36685 - وأما أبو ثور ، فقال : الدية في العمد الذي لا قصاص فيه ، أوعفي عن القاتل على الدية ، وفي شبه العمد ، كل ذلك كدية الخطأ أخماسا أنه بدل لأنه أقل ما قيل فيه .

36686 - وقال عامر الشعبي ، وإبراهيم النخعي : دية شبه العمد ، ثلاث وثلاثون حقة ، وثلاث وثلاثون جذعة ، وأربع وثلاثون خلفة ، من ثنية إلى بازل عامها .

36687 - وهو مذهب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه .

36687 - ذكر أبو بكر ، قال : حدثني أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، عن علي ، قال : في شبه العمد ثلاث وثلاثون حقة ، وثلاث وثلاثون جذعة ، وأربع وثلاثون ثنية إلى بازل عامها ، كلها خلفة .

36689 - وروى الثوري وغيره ، عن أبي إسحاق مثله .

36690 - وقال الحسن البصري ، وابن شهاب الزهري ، وطاوس اليماني : [ ص: 28 ] دية شبه العمد ، ثلاثون بنت لبون ، وثلاثون حقة ، وأربعون خلفة .

36691 - وهذا مذهب عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ورواية عن زيد بن ثابت .

36692 - ذكر أبو بكر ، قال : حدثني عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، وعن عبد ربه ، عن أبي عياض ، أن عثمان بن عفان ، وزيد بن ثابت ، قالا : في المغلظة أربعون جذعة خلفة ، وثلاثون حقة ، وثلاثون بنت لبون .

36693 - وقال معمر : عن الزهري : إن الدية التي غلظها النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا .

36694 - وذكر طاوس أن ذلك عنده في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم .

36695 - فهذا ما بلغنا في أسنان دية العمد ، وأسنان دية شبه العمد ، وسنذكرها عن الفقهاء ، وأئمة الفتوى في صفة شبه العمد وكيفيته ، ومن نفاه منهم ، ومن أثبته فيه ، في باب " ما يجب فيه العمد " من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .

36696 - ويأتي ما للعلماء في دية الخطأ ، في الباب بعد هذا ، بعون الله تعالى . وإنما ذكرنا في هذا الباب شبه العمد مع دية العمد ، إذا قبلت ، لأن مذاهب [ ص: 29 ] أكثر العلماء في ذلك متقاربة متداخلة ، وجمهورهم يجعلها سواء .

36697 - وقد أتينا في ذلك بالروايات عن السلف ، وما ذهب إليه من ذلك أئمة الأمصار ، والحمد لله كثيرا .

36698 - وقد اختلف العلماء في أخذ الدية من قاتل العمد .

36699 - فقال مالك ، في رواية ابن القاسم عنه - وهو الأشهر من مذهبه - وأبو حنيفة ، والثوري ، وأصحابه ، وابن شبرمة ، والحسن بن حي : ليس لولي المقتول عمدا إلا القصاص ، ولا يأخذ الدية إلا برضا القاتل .

36700 - وقال الأوزاعي ، والليث بن سعد ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وداود .

36701 - وهو قول ربيعة وأكثر فقهاء المدينة من أصحاب مالك وغيرهم .

36702 - وروى أشهب ، عن مالك : ولي المقتول بالخيار ، إن شاء اقتص ، وإن شاء أخذ الدية ، رضي القاتل أو لم يرض .

36703 - وذكر ابن عبد الحكم الروايتين جميعا عن مالك .

36704 - وحجة من لم ير لولي المقتول إلا القصاص ، حديث أنس في قصة سن الربيع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كتاب الله القصاص " .

36705 - وحجة من أوجب له التخيير بين القصاص وأخذ الدية ، حديث أبي شريح الكعبي وأبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " من قتل له قتيل ، فهو بين خيرتين " .

36706 - وقال أبو هريرة : بخير نظرين ، بين أن يأخذ ، وبين أن يعفو .

[ ص: 30 ] 36707 - وهما حديثان لا يختلف أهل العلم بالحديث في صحتهما .

36708 - حدثني عبد الوارث ، قال : حدثني قاسم ، قال حدثني بكر بن حماد ، قال : حدثني مسدد ، قال : حدثني يحيى بن سعيد ، قال : حدثني ابن أبي ذئب ، قال : حدثني سعيد بن أبي سعيد ، قال : سمعت أبا شريح ( الكعبي ) يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل ، وإني عاقله ، فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل ، فهو بالخيار بين خيرتين ، بين أن يأخذ العقل ، وبين أن يقتل " .

36709 - وحديث أبي هريرة عند يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، رواه جماعة أصحاب يحيى عنه .

[ ص: 31 ] 36710 - وقد ذكرنا طرق الحديثين في مسألة أفردنا لها جزءا في معنى قول الله عز وجل : ( فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف ) [ البقرة : 178 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية