الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
186 - أنه قام من اثنتين دون أن يجلس ، فسجد لسهوه قبل السلام ، وقد نقص الجلسة الوسطى والتشهد .


[ ص: 356 ] 5394 - قال مالك : وإن كان السهو زيادة فالسجود له بعد السلام على حديث ذي اليدين ; لأنه - عليه السلام - سها ، فسلم من ركعتين يومئذ ، وتكلم ، ثم انصرف ، وبنى ، فزاد سلاما وعملا وكلاما وهو ساه لا يظن أنه في صلاة ، ثم سجد بعد السلام .

5395 - وهذا كله قول أبي ثور .

5396 - ويقول مالك هذا ومن تابعه : يصح استعمال الخبرين جميعا في الزيادة والنقص .

5397 - واستعمال الأخبار على وجوبها أولى من ادعاء النسخ فيها ، ومن جهة الفرق بين الزيادة والنقص بين في ذلك ; لأن السجود في النقصان إصلاح وجبر ، ومحال أن يكون الإصلاح والجبر بعد الخروج من الصلاة .

5398 - وأما السجود في الزيادة فإنما هو ترغيم للشيطان ، وذلك ينبغي أن يكون بعد الفراغ .

5399 - وجملة مذهب مالك وأصحابه أن من وضع السجود الذي قالوا : إنه بعد - قبل ، فلا شيء عليه ، إلا أنهم أشد استثقالا لوضع السجود الذي بعد السلام قبل السلام ، وذلك لما رئي وعلم من اختلاف أهل المدينة في ذلك .

[ ص: 357 ] 5400 - وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري : السجود كله في السهو زيادة كان أو نقصانا - بعد السلام .

5401 - وهو قول أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وعمر بن عبد العزيز .

5402 - وحجة الكوفيين في ذلك : حديث ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى خمسا ساهيا ، وسجد لسهوه بعد السلام ، وحديث المغيرة بن شعبة أنه قام من اثنتين ، وسجد بعد السلام .

5403 - وقد ذكرنا هذه الآثار كلها في التمهيد .

5404 - وعارضوا حديث ابن بحينة بحديث المغيرة بن شعبة ، وزعموا أنه أولى ; لأن فيه زيادة التسليم والسجود بعده . وهذا ليس بشيء ; لأن حديث ابن بحينة ثابت بنقل الأئمة ، وحديث المغيرة ضعيف الإسناد ليس مثله بحجة .

[ ص: 358 ] 5405 - ومن حجتهم أيضا من جهة النظر إجماعهم على أن حكم من سها في صلاته ألا يسجد في موضع سهو ولا في حاله تلك ، وأن حكمه أن يؤخر ذلك إلى آخر صلاته لتجمع السجدتان كل سهو في صلاته . ومعلوم أن السلام قد يمكن فيه السهو أيضا ; فواجب أن تؤخر السجدتان عن السلام أيضا ، كما تؤخر أيضا عن التشهد .

5406 - وقال الأوزاعي ، الشافعي ، والليث بن سعد - : سجود السهو كله في الزيادة والنقصان قبل السلام .

[ ص: 359 ] 5407 - وهو قول ابن شهاب ، وربيعة ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وابن أبي ذئب .

5408 - وقال ابن شهاب : كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السجود قبل السلام .

5409 - والحجة لهم حديث مالك هذا عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ، وهو عن أبي سعيد الخدري عن النبي - عليه السلام - صحيح .

5410 - وفيه البناء على اليقين وإلغاء الشك ، والعلم محيط بأن ذلك إن لم يكن زيادة لم يكن نقصانا .

5411 - وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نابه ذلك في صلاته أن يسجد سجدتين قبل التسليم . والزيادة مع ذلك ممكنة غير مدفوعة .

5412 - وأما النقصان فلحديث ابن بحينة ; إذ قام من اثنتين وسجد قبل السلام . وهو من أثبت ما يروى في باب سجود السهو عن النبي - عليه السلام - .

5413 - قالوا : فعلمنا بهذا أن ليس المعنى في ذلك زيادة ولا نقصانا ، وأن المعنى في ذلك إصلاح الصلاة ، وإصلاحها لا يكون إلا قبل الفراغ منها ، وإنما جاز تأخير السجدتين عن جميع الصلاة ما خلا السلام ; لأن السلام يخرج به من أن تكون السجدتان مصلحتين .

5414 - ألا ترى أن مدرك بعض الصلاة مع الإمام لا يشتغل بالقضاء ، ويتبع الإمام فيما بقي عليه حاشا السلام ; لما ذكرنا ؟ ولكل واحد منهم حجة من جهة النظر يطول ذكرها ، والمعتمد عليه ما ذكرنا .

5415 - وكل هؤلاء يقول : إن المصلي لو سجد بعد السلام لم يضره ، [ ص: 360 ] وكذلك لو سجد بعد السلام فيما قالوا فيه : السجود قبل السلام - لم يضره ، ولم يكن عليه شيء .

5416 - وأما ابن حنبل ، فذكر الأثرم ، قال : سألت ابن حنبل عن سجود السهو : قبل السلام أم بعده ؟ فقال : في مواضع قبل السلام ، وفي مواضع بعد السلام ، على حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين .

5417 - ومن سلم من ثلاث سجد أيضا بعد السلام ، على حديث عمران بن حصين .

5418 - وفي التحري يسجد بعد السلام ، على حديث ابن مسعود وحديث منصور .

[ ص: 361 ] 5419 - وفي القيام من اثنتين يسجد قبل السلام ، على حديث ابن بحينة .

5420 - وفي الشك يبني على اليقين ، ويسجد قبل السلام ، على حديث أبي سعيد الخدري ، وحديث عبد الرحمن بن عوف .

5421 - قال أبو عمر : قد ذكرنا حديث عبد الرحمن بن عوف أيضا في التمهيد .

5422 - وقال الأثرم : قلت لابن حنبل : فما كان سوى هذه المواضع ؟ قال : يسجد فيها كلها قبل السلام ; لأنه يتم ما نقص من صلاته .

[ ص: 362 ] 5423 - قال : ولولا ما روي عن النبي - عليه السلام - لرأيت السجود كله [ ص: 363 ] قبل السلام ; لأنه من شأن الصلاة ، فيقضيه قبل السلام .

5424 - ولكن أقول : كل ما روي عنه - عليه السلام - أنه سجد فيه بعد السلام - فإنه يسجد فيه بعد السلام ، وسائر السهو يسجد فيه قبل السلام .

5425 - وقال داود : لا يسجد أحد للسهو إلا في الخمسة المواضع التي سجد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

5426 - واختلف الفقهاء أيضا فيمن شك في صلاته ، فلم يدر أواحدة صلى أم اثنتين ، أو لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثا ، أو لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا :

5427 - فقال مالك والشافعي : يبني على اليقين ، ولا يجزيه التحري ، وروي ذلك عن الثوري .

5428 - وهو قول داود والطبري .

5429 - وحجتهم في ذلك حديث أبي سعيد المذكور في هذا الباب ، وحديث عبد الرحمن بن عوف ، وحديث ابن عمر ، وما كان مثلها في البناء [ ص: 364 ] على اليقين .

5430 - وقال أبو حنيفة : إذا كان ذلك أول ما شك استقبل صلاته ولم يتحر ، وإن لقي ذلك غير مرة تحرى .

5431 - وقال الحسن بن حي والثوري في رواية أخرى : يتحرى سواء كان أول مرة أو لم يكن .

5432 - وقال الأوزاعي : يتحرى ، قال : وإن نام في صلاته فلم يدر كم صلى - استأنف .

5433 - وقال الليث بن سعد : إن كان هذا شيئا يلزمه ، ولا يزال يشك - أجزأته سجدتا السهو عن التحري وعن البناء على اليقين ، فإن لم يكن شيئا يلزمه استأنف ركعة بسجدتيها .

5434 - وقال أحمد بن حنبل : الشك على وجهين : اليقين والتحري ; فمن رجع إلى اليقين ألغى الشك ، وسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري ، وإذا رجع إلى التحري - وهو أكثر الوهم - سجد سجدتي السهو بعد السلام ، على حديث ابن مسعود الذي يرويه منصور .

5435 - وبه قال أبو خيثمة زهير بن حرب .

5436 - وقال جماعة من أهل العلم - منهم داود - : التحري هو الرجوع إلى اليقين .

5437 - قال أبو عمر : من جعل التحري والرجوع إلى اليقين سواء صح له [ ص: 365 ] استعمال الخبرين بمعنى واحد ، وأي تحر يكون لمن انصرف وهو شاك لم يبن على يقينه ؟ .

5438 - ومعلوم أن من تحرى وعمل على أغلب ظنه وأكثره عنده - أن شعبة من الشك تصحبه إذا لم يبن على يقينه .

5439 - وقد ذكرنا علة حديث ابن مسعود من رواية منصور وغيره في التحري في كتاب التمهيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية