الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 48 ] ( 5 ) باب عقل الجراح في الخطأ 1586 - قال مالك : الأمر المجتمع عليه عندهم في الخطأ أنه لا يعقل حتى يبرأ المجروح ويصح وأنه إن كسر عظم من الإنسان ، يد أو رجل أو غير ذلك من الجسد ، خطأ فبرأ وصح وعاد لهيئته فليس فيه عقل فإن نقص أو كان فيه عثل ففيه من عقله بحساب ما نقص منه .

36813 - قال مالك : فإن كان ذلك العظم مما جاء فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقل مسمى ، فبحساب ما فرض فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - . وما كان مما لم يأت فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقل مسمى ، ولم تمض فيه سنة ولا عقل مسمي ، فإنه يجتهد فيه .


36814 - قال أبو عمر : قوله كله صحيح حسن ، أما قوله : " إنه لا يعقل في الخطأ جرح المجروح حتى يبرأ " .

36815 - فعلى ذلك أكثر العلماء في العمد والخطأ ، وقالوا : لا يقاد من الجرح العمد ، ولا يعقل الخطأ حتى يصح ويبرأ .

36816 - قال ابن القاسم ، عن مالك : لا يقاد من جراحة عمدا ، إلا بعد البرء ، ولا يعقل الخطأ ، إلا بعد البرء .

36817 - وكذلك قال الثوري .

36818 - وقال الحسن بن صالح بن حي : يتربص بالسن بالجراح سنة ، [ ص: 49 ] مخافة أن ينتقص .

36819 - وقال أبو حنيفة ، فيمن كسر سن الرجل : لا أرش فيه حتى يحول عليه الحول ، فيحكم بما يؤول إليه أمره ، وكذلك الجراحات لا يقضي فيها بأرش حتى ينظر إلى ما تؤول .

36820 - وذكر المزني عن الشافعي : ولو قطع أصبع رجل ، فسأل المقطوع القود ساعة قطع ، أقدته ، فإن ذهبت كف المجني عليه ، جعلت على الجاني أرش أربعة أخماس ديتها ، ولو مات منها قتلته ، فإن قطع أصبعه ، فتآكلت ، فذهبت كفه ، أقدته من الأصبع ، وأخذ أرش يده ، إلا أصبعا ، ولم ينتظره ، أيبرأ إلى مثل جنايته أم لا ؟

36821 - قال أبو عمر : اتفق مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما ، وسائر الكوفيين ، والمدنيون على أنه لا يقتص من جرح ، ولا يبدى حتى يبرأ .

36822 - والاختيار ما قاله مالك ، ومن تابعه على ذلك ، وهم أكثر أهل العلم .

36824 - وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من مرسل عكرمة ، ومرسل محمد بن طلحة بن يزيد بن عمرو بن ركانة ، ومن مرسل عمرو بن شعيب .

36825 - ذكره عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن محمد [ ص: 50 ] بن طلحة بن ركانة .

36826 - وعن معمر ، عن أيوب ، عن عمرو بن شعيب ، وعن ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب ، وعن معمر ، عن من سمع عكرمة : أن رجلا طعن رجلا بقرن في رجله ، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : أقدني . فقال : " حتى تبرأ " قال : أقدني قال : " حتى تبرأ " ثم قال : أقدني يا رسول الله ! فأقاده ، ثم عرج ، وصح المستقاد منه ، فجاء المستقيد ، فقال : عرجت يا رسول الله ، فقال : " لا شيء لك ، ألم أقل لك : اصبر حتى تبرأ ؟ ! " وفي رواية : " أبعدك الله ، وأبطل عرجك ، عصيتني ألا تستقيد حتى يبرأ جرحك " ثم : " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جرح ألا يستقاد حتى يبرأ جرحه " .

36827 - وذكر هذا الخبر أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثني ابن علية ، عن أيوب ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد ، أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستقيد ، فقال له : " حتى تبرأ " . فأبى ، وعجل ، واستقاد ، فعثمت رجله ، وبرئت رجل المستقاد منه ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " ليس لك شيء ، أبيت " .

36828 - وروى الثوري ، عن عيسى بن المغيرة ، عن يزيد بن وهب ، [ ص: 51 ] أن عمر بن عبد العزيز ، كتب إلى طريف بن ربيعة ، وكان قاضيا بالشام ، أن صفوان بن المعطل ، ضرب حسان بن ثابت بالسيف فجاءت الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : القود ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تنتظرون ، فإن يبرأ صاحبكم ، تقصوا ، وإن يمت ، نقدكم بعد في حسان " . فقالت الأنصار : قد علمتم أن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في العفو ، فعفوا ، وأعطاهم صفوان جارية ، وهي أم عبد الرحمن بن حسان .

36829 - قال أبو عمر : هكذا في هذا الخبر ، أن صفوان بن المعطل ، أعطى حسان الجارية التي هي أم عبد الرحمن ، لما عفا عنه .

36830 - والمعروف عند أهل العلم بالخبر والسير ، وأكثر أهل الأثر ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، هو الذي أعطى حسان بن ثابت ، إذ عفا عن صفوان بن المعطل الجارية المسماة سيرين ، وهي أخت مارية القبطية ، وكانت من هدية المقوقس صاحب مصر والإسكندرية ، إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فوهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان سيرين ، فأولدها عبد الرحمن ابن سيرين ، واتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مارية لنفسه ، فولدت له إبراهيم ابنه .

36831 - وأما قوله : " إن كسر عظم من الإنسان ، يد أو رجل ، أو غير ذلك . . . " إلى آخر قوله ، فقد قال الشافعي ، فيما ذكر عنه المزني : في كل عظم [ ص: 52 ] كسر ، سواء السن ، فإذا جبر مستقيما ، ففيه حكومة بقدر الألم والشين ، فإن جبر معيبا بنقص أو عوج ، أو غير ذلك ، زيد فيه حكومة بقدر شينه وضره ، وألمه ، ولا يبلغ به دية العظم لو قطع .

36832 - وقول أبي حنيفة وأصحابه نحو ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية