الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
37570 - قال مالك : والأمر عندنا أن الدية لا تجب على العاقلة ، حتى تبلغ الثلث فصاعدا ، فما بلغ الثلث فهو على العاقلة ، وما كان دون الثلث فهو في مال الجارح خاصة .


37571 - قال أبو عمر : قد تقدم ذكر إجماع العلماء ، على أن العاقلة تحمل الدية كاملة في قتل المؤمن الحر خطأ ، ذكرا كان أو أنثى .

37572 - واختلفوا في مبلغ ما تحمله العاقلة من ديات الجراحات في الدماء ، بعد إجماعهم أن العاقلة تحمل دية المؤمن المقتول خطأ ، ذكرا أو أنثى ، وبعد إجماعهم [ ص: 182 ] على أنها لا تحمل شيئا من جنايات الأموال .

37573 - وقول مالك ما ذكره في موطئه .

37574 - وعليه جمهور جماعة أصحابه ، أن العاقلة لا تحمل إلا الثلث فما زاد .

37575 - وهو قول سعيد بن المسيب ، والفقهاء السبعة من المدينة ، وابن أبي ذئب وابن أبي سلمة .

37576 - وقال أبو سلمة وأصحابه : إذا بلغ من المرأة عشر ديتها ومن الرجل نصف عشر ديته ، حملته العاقلة ، وما دونها ففي مال الجاني ، لا تحمله العاقلة .

37577 - وقال الثوري ، وابن شبرمة : الموضحة ، فما زاد ، على العاقلة فدل على أنهما اعتبرا من الرجال والمرأة مقدار موضحة الرجل .

37578 - وهو قول عمر بن عبد العزيز .

37579 - وقال عثمان البتي ، والشافعي : تحمل العاقلة القليل والكثير من أروش الدماء في الخطأ ، من قتل وجرح ، من حر وعبد ، وذكر وأنثى .

37580 - قال الشافعي : لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حمل العاقلة الأكثر ، دل على تحملها الأيسر .

37581 - قال أبو عمر : قول الشافعي يحتج والحجة له إجماع علماء المسلمين ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سن وشرع حمل العاقلة الدية كاملة ، ومعلوم أن ذلك حمل لجميع الأجزاء لها ، فمن زعم أن جزءا منها عشر ألف ، أو نصف عشر أو ثلثا ، [ ص: 183 ] لا تحمله ، وتحمل ما فوقه ، فقد قال بما لا يعضده أصل ، ولا شيئا سن ، ولا جاء به توقيف عمن يجب التسليم له .

37582 - وأما وجه قول مالك ، والحجة له ، أن الأصل ألا يحمل أحد جناية غيره ، بأن الله تعالى يقول في كتابه : ( ولا تكسب كل نفس إلا عليها ) [ الأنعام : 164 ] .

37583 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل في ابنه : " إنك لا تجني عليه ، ولا يجني عليك " ، فلا تكسب كل نفس إلا عليها في دم ، ولا مال ، إلا أن تخص ذلك سنة قائمة ، أو إجماع .

37584 - وقد أجمع أن ما بلغ الثلث من الدية فما زاد ، منحته العاقلة .

37585 - خرج من معنى ما تلونا ، وبقي ، ما اختلف فيه على الأصل المعلوم في ألا تزر وازرة وزر أخرى ، ( ولا تكسب كل نفس إلا عليها ) [ الأنعام : 164 ] .

37586 - وكان استثناء مجتمعا عليه ، من أصل مجتمع عليه ، لأن من قال : [ ص: 184 ] تحمل العاقلة العشر ، ونصف العشر فصاعدا ، ومن قال : تحمل القليل والكثير قد اجتمعوا في تحمل الثلث فصاعدا ، فوجب أن يكون ما نقص من الثلث مردودا إلى الإجماع في أنه لا يحمل أحد إلا ما جنت يده ، لا ما جنى غيره .

37587 - قال أبو عمر : قد تجاوز الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان ، قال الله - عز وجل : ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم ) [ الأحزاب : 5 ] .

37588 - وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه " .

37589 - وما تجاوز الله عنه ، فلا وزر فيه .

37590 - ولا معنى لقول من احتج في هذا الباب ، بقول الله تعالى : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) [ الأنعام : 164 ] .

37591 - وقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل المؤمن خطأ ، أن لا يطل دمه ، وأن يحمله غيره الذي أخطأ فيه ، ولم يرد قتله ، وأن يتعاون قبيله ورهطه .

37592 - وما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذلك هدى الله ، قال الله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) [ النساء : 65 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية