الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1624 [ ص: 237 ] 1622 - مالك ، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ، أنه بلغه أن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قتلت جارية لها سحرتها ، وقد كانت دبرتها ، فأمرت بها فقتلت ، قال مالك : الساحر الذي يعمل السحر ، ولم يعمل ذلك له غيره ، هو مثل الذي قال الله - تبارك وتعالى - في كتابه : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) [ البقرة : 102 ] . فأرى أن يقتل ذلك ، إذا عمل ذلك هو نفسه .


37921 - قال أبو عمر : قد روي هذا الخبر عن نافع عن حفصة وعن نافع ، عن ابن عمر .

37922 - روى ابن عيينة ، قال : أخبرني من سمع نافعا يحدث عن حفصة أنها قتلت جارية لها سحرتها .

37923 - وذكر عبد الرزاق قال : أخبرنا عبد الله ، أو عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن جارية لحفصة سحرتها ، واعترفت بذلك ، فأمرت بها عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب فقتلها .

37924 - وأنكر ذلك عليها عثمان ، فقال ابن عمر : ما تنكر على أم المؤمنين من امرأة سحرتها واعترفت ؟ فسكت عثمان .

37925 - وعند مالك في هذا الباب ، عن عائشة خلاف لحفصة ، إلا أنه [ ص: 238 ] رماه ، بآخرة من كتابه ، فليس عند يحيى وطائفة معه من رواة " الموطأ " .

37926 - وأثبت حديث حفصة ، لأنه الذي يذهب إليه في قتل الساحر ، وحديث عائشة رواه مالك ، عن أبي الرجال ، محمد بن عبد الرحمن ، عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة ، أنها أعتقت جارية لها على دبر منها ، ثم إن عائشة مرضت بعد ذلك ما شاء الله ، فدخل عليها سندي ، فقال : إنك مطبوبة ، فقالت : من طبني ؟ فقال : امرأة من نعتها كذا وكذا ، وفي حجرها صبي قد بال ، فقالت عائشة ، ادع لي فلانة ، لجارية لها تخدمها ، فوجدوها في بيت جيران لها ، في حجرها صبي قد بال ، فقالت : حتى أغسل بول الصبي ، فغسلته ثم جاءت ، فقالت لها عائشة : سحرتني ؟ قالت : نعم فقالت : لم ؟ قالت أحببت العتق ، فقالت عائشة : أحببت العتق فوالله لا تعتقن أبدا ، فأمرت عائشة ابن أخيها أن يبيعها من الأعراب ، ممن يسيء ملكتها ، ثم قالت : ابتع لي بثمنها رقبة حتى أعتقها ، ففعلت .

37927 - قالت عمرة : فلبثت عائشة ما شاء الله عز وجل من الزمان ، ثم إنها رأت في النوم ، أن اغتسلي من ثلاث آبار يمر بعضها في بعض ، فإنك تشفين ، قالت عمرة : فدخل على عائشة إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي بكر ، وعبد الرحمن بن سعد بن زرارة ، فذكرت لهما الذي رأت ، فانطلقا إلى قباء ، فوجدا آبارا ثلاثا يمد بعضها بعضا ، فاستقوا من كل بئر منها ثلاث شخب ، حتى ملئ الشخب من جميعهن ، ثم أتوا به عائشة ، فاغتسلت به ، فشفيت .

[ ص: 239 ] 37928 - قال أبو عمر : في حديث عائشة هذا بيع المدبر ، وكان بعض أصحابنا ، يفتي به في بيع المدبر إذا تخلف عن مولاه ، وأحدث أحداثا قبيحة ، لا ترضى .

37929 - وفيه أن السحر حق ، وأنه يؤثر في الأجسام ، وإذا كان هذا لم يؤمن منه ذهاب النفس .

37930 - وفيه أن الغيب تدرك منه أشياء بدروب من التعليم ، فسبحان من علمه بلا تعلم ، ومن يعلم الغيب حقيقة ، لا كما يعلمه من يخطئ مرة ، ويصيب أخرى ، تخرصا وتظننا .

37931 - وفيه إثبات النشرة وأنها قد ينتفع بها ، وحسبك ما جاء منها في اغتسال العائن للمعين .

37932 - وفيه أن الساحر لا يقتل إذا كان عمله من السحر ما لا يقتل .

37933 - حدثني سعيد قال : حدثني قاسم ، قال : حدثني محمد ، قال : حدثني أبو بكر قال ، حدثني أبو معاوية ، عن الأعمش عن يزيد بن حبان ، عن زيد بن أرقم ، قال سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل من اليهود ، فاشتكى النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك أياما ، فأتاه جبريل ، فقال : إن رجلا من اليهود عقد لك عقدا ، فأرسل إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليا - رضي الله عنه - فاستخرجها وجاء بها ، وجعل كلما حل عقدة ، وجد لذلك خفة ، قال : فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وكأنما نشط من عقال فما ذكر ذلك النبي [ ص: 240 ] - صلى الله عليه وسلم - لليهودي ، ولا أراه في وجهه قط .

37934 - قال أبو عمر : اليهودي لبيد بن الأعصم ، وحديثه فيه طول من رواية هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة - رضي الله عنها - وأما حديث حفصة ، في قتل الساحر ، فهو مذهب عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله بن عمر ، وقيس بن سعد ، وجندب - رجل من الصحابة .

37935 - روى ابن عيينة عن سالم بن الجعد ، عن ابن دينار أن قيس بن سعد بن عبادة كان أميرا على مصر ، فكان سره يفشو ، فشق ذلك عليه ، وقال : ما هذا ؟ فقيل له : إن هاهنا رجلا ساحرا ، فبعث إليه فسأله ، فقال : إنا لا نعلم ما في الكتاب حتى يفتح ، فإذا فتح علمنا ما فيه ، فأمر به قيس ، فقتل .

37936 - وسفيان ، عن أبي سعيد الأعور ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : علم السحر في قرية من قرى مصر ، يقال لها : الغرماء .

37937 - وسفيان ، عن عمار الدهني ، أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبة ، يمشي على الجبل ، ويدخل في است الحمار ، ويخرج من فيه ، فاشتمل له جندب على السيف فقتله .

37938 - قال أبو عمر : قد ذكرنا خبر جندب هذا في قتله للساحر بين يدي الوليد ، من طرق فيها بيان شاف ، من كتاب الصحابة ، والحمد لله كثيرا .

37939 - وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " حد الساحر ضربه [ ص: 241 ] بالسيف " ، إلا أنه حديث ليس بالقوي ، انفرد به إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم .

37940 - هكذا رواه ابن عيينة ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن مرسلا .

37941 - ومنهم من يجعله عن الحسن ، عن جندب .

37942 - وحدثنا أبو عبد الله ، محمد بن عبد الملك ، قراءة مني عليه في شعبان سنة تسعين وثلاثمائة ، قال : حدثني أبو سعيد ، أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي ، في منزله بمكة سنة أربعين وثلاثمائة ، قال : حدثني الحسن بن محمد بن الحسن بن الصياح الزعفراني ، قال : حدثني سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، بأنه سمع بجالة ، قال : كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف بن قيس فأتانا كتاب عمر قبل موته بسنة : اقتلوا كل ساحر وساحرة ، وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس ، وانهوهم عن الزمزمة فقتلنا ثلاثة سواحر ، وجعلنا نفرق بين الرجل وبين حريمته ، في كتاب الله - عز وجل - وصنع طعاما كثيرا ، فدعى المجوس ، وعرض السيف على فخذه فألقوا وقر بغل أو بغلين من فضة ، وأكلوا بغير زمزمة ، ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر .

37943 - وروى معمر ، وابن عيينة ، وابن جريج ، عن عمرو بن دينار قال : [ ص: 242 ] سمعت بجالة يحدث أبا الشعثاء ، وعمرو بن أوس عند صفة زمزم ، في إمارة مصعب بن الزبير ، قال : كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف بن قيس ، فأتى كتاب عمر قبل موته بسنة أن اقتلوا كل ساحر وساحرة ، وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس وانهوهم عن الزمزمة . . . " وذكر تمام الخبر .

37944 - قال أبو عمر : وقد قال جماعة من فقهاء الأمصار : يقتل الساحر اتباعا والله أعلم لمن ذكرنا من الصحابة ، وبنحو ما نزع به مالك - رحمه الله .

37945 - وأبت ذلك طائفة ، منهم الشافعي ، وداود ، فقالا : لا يقتل الساحر إلا أن يقر أن من عمله مات المسحور ، فإن قال ذلك ، قتل به قودا .

[ ص: 243 ] 37946 - قال الشافعي : وإن قال : عملي هذا قد أخطئ به القتل وأصيب ، وقد مات من عملي قوم ، كانت عليه الدية في ماله ، فإن قال مرض قوم من سحري ، ولم تمت ، أقسم أولياؤه : لمات من ذلك العمل ، وكانت فيه الدية .

37947 - وقال داود : لو قال الساحر : أنا أتكلم بكلام أقتل به ، لم يجب قتله ، لأن الكلام لا يقتل به أحد أحدا ، كما لا يحيي به أحد أحدا وقد جاء بمحال خارج عن العادات .

37948 - وقد قيل : إن السحر لا شيء في حقيقته منه ، وإنما هو تخيل يتخيل الإنسان الشيء على غير ما هو به .

37949 - واحتج قائل هذه المقالة يقول الله - عز وجل : ( يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) [ طه : 66 ] وبحديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخيل إليه أنه كان يأتي النساء حين سحره لبيد بن الأعصم .

37950 - وفي ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحره ، دليل واضح على أن قتل الساحر ليس بواجب .

37951 - وفي حديث زيد بن أرقم على ما ذكرناه بيان ذلك أيضا .

37952 - قال أبو عمر : القول الأول أعلى ، من جهة الاتباع ، وأنه لا مخالف له من الصحابة ، إلا عائشة ، فإنها لم تر قتل الساحر .

37953 - ومن زعم أن الساحر يقلب الحيوان من صورة إلى صورة ، فيجعل [ ص: 244 ] الإنسان حمارا ، أو نحوه ، ويقدر على نقل الأجسام وهلاكها وتبديلها ، فإنه يرى قتل الساحر ، لأنه كافر بالأنبياء - عليهم السلام - يدعي مثل آياتهم ومعجزاتهم ، ولا يتهيأ مع هذا علم صحة النبوة ، إذ قد يحصل مثلها بالحيلة .

37954 - وأما من زعم أن السحر خدع ومخارق وتمويهات ، وتخيلات ، فلا يجب على أصله ، قتل الساحر ، إلا أن يقتل بفعله أحدا ، فيقتل به .

37955 - وقد ذكرنا حديث ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من اقتبس بابا من علم النجوم ، فقد اقتبس شعبة من السحر ، ما زاد زاد ، وما زاد زاد " في غير موضع من كتابنا والحمد لله كثيرا .

37956 - وفي " المبسوط " روى ابن نافع عن مالك في المرأة تقر أنها عقدت زوجها عن نفسها أو غيرها من النساء ، أنها تنكل ولا تقتل .

37957 - قال : ولو سحر نفسه ، لم يقتل لذلك ، وأما من جهة النظر ، فدماء المؤمنين محظورة ، فلا تستباح إلا بيقين ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية