الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1625 [ ص: 245 ] ( 20 ) باب ما يجب في العمد .

1623 - مالك ، عن عمر بن حسين ، مولى عائشة بنت قدامة ، أن عبد الملك بن مروان أقاد ولي رجل من رجل قتله بعصا ، فقتله وليه بعصا .

قال مالك : والأمر المجتمع عليه الذي لا اختلاف فيه عندنا ، أن الرجل إذا ضرب الرجل بعصا ، أو رماه بحجر ، أو ضربة عمدا ، فمات من ذلك فإن ذلك هو العمد وفيه القصاص .

[ ص: 246 ] قال مالك : فقتل العمد عندنا أن يعمد الرجل إلى الرجل فيضربه ، حتى تفيظ نفسه ، ومن العمد أيضا أن يضرب الرجل في النائرة تكون بينهما ، ثم ينصرف عنه وهو حي ، فينزى في ضربه ، فيموت ، فتكون في ذلك ، القسامة .


37958 - قال أبو عمر : أما القود بعصا من القاتل ، فقد اختلف فيه قديما العلماء .

37959 - فجملة مذهب مالك ، في ما ذكره ابن القاسم ، وابن وهب ، وأشهب ، وغيرهم عنه ، قال : إن قتله بعصا أو بحجر ، أو بالنار أو بالتغريق ، قتل بمثله ، فإن لم يمت ، فلا يزال يكون عليه من جنس ما قتله به حتى يموت ، وإن زاد على فعل القاتل الأول ، إلا أن يكون في ذلك تعذيب وطول ، فيقتل بالسيف .

37960 - وبين أصحاب مالك ، في هذا الباب ، اختلاف في النار وغيرها .

37961 - وقد ذكرناه في كتاب اختلافهم .

37962 - وقال الشافعي : إن ضربه بحجر ، فلم يقلع عنه حتى مات ، فعل به مثل ذلك ، وإن حبسه بلا طعام ولا شراب ، حتى مات ، حبس كذلك ، فإن لم يمت في تلك المدة ، قتل بالسيف .

37963 - قال : وكذلك التغريق ، إذا ألقاه في مهواة بعيدة .

[ ص: 247 ] 37964 - قال : ولو قطع يديه ورجليه ، فمات ، فعل به الولي مثل ذلك ، فإن مات ، وإلا قتله بالسيف .

37965 - وقال ابن شبرمة : يضرب مثل ما ضربه ، ولا يضرب أكثر من ذلك وقد كانوا يكرهون المثلة ، ويقولون : السيف يجزئ من ذلك كله وإن غمسه في الماء ، فمات ، غمس أبدا حتى يموت .

37966 - قال أبو حنيفة وأصحابه : بأي وجه قتله ، لم يقتل إلا بالسيف .

37967 - وهو قول إبراهيم النخعي ، وعامر الشعبي ، والحسن البصري .

37968 - ورواه الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم .

37969 - قال أبو عمر : الحجة لمالك ، والشافعي ، من جهة الأثر ، ما حدثناه سعيد ، قال : حدثني قاسم ، قال : حدثني محمد ، قال حدثني أبو بكر ، قال : حدثني وكيع ، عن قتادة ، عن أنس ، أن يهوديا رضخ رأس امرأة بحجر ، فرضخ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه بحجر .

37970 - أو قال : بين حجرين
.

37971 - وأما قول مالك : " الأمر المجتمع عليه الذي لا اختلاف فيه عندنا ، [ ص: 248 ] أن الرجل إذا ضرب رجلا بعصا ، أو رماه بحجر ، فمات من ذلك ، فهو العمد ، وفيه القصاص " ، فهذا منه نفي لشبه العمد .

37972 - والقتل عنده على وجهين ، عمد ، وخطأ ، لا ثالث لهما .

37973 - وقتيل الحجر والعصا عنده ، وغيرهما سواء ، إذا وقع العمد من الضارب بهما .

37974 - قال ابن القاسم : قال مالك : الأمر شبه العمد باطل ، وإنما هو عمد وخطأ ، لم أجد في القرآن غير ذلك ، وهو الأمر عندنا الذي لا اختلاف فيه .

37975 - قال أبو عمر : قد تابع مالكا على نفيه ودفعه لشبه العمد الليث بن سعد ، وما أعلم أحدا من فقهاء الأمصار ، على ذلك تابعهما .

37976 - قال مالك : العمد : ما عمد به إنسان آخر ، ولو ضربه بأصبعه ، فمات من ذلك ، دفع إلى ولي المقتول .

37977 - إلا أنه قد روي عن إبراهيم النخعي ، وحماد ، أنهما قالا : الضرب بالحجر عمد ، وفيه القود .

37978 - وروي عن الشعبي ، وحماد ، في العصا مثل ذلك .

37979 - وقال الزهري : الضرب بالعصا عمد ، إذا قتلت صاحبها ، قتل الضارب .

37980 - وعن عبيد بن عمير ، قال : يعمد الرجل الآبد الشديد إلى الصخرة أو الخشبة ، فيشرخ بها رأس الرجل ، وأي عمد أعمد من هذا .

[ ص: 249 ] 37981 - وعن عمر بن الخطاب ، أنه قال : يعتمد أحدكم إلى أرضه فيضربه بمثل أكلة اللحم ، لا يؤتى برجل فعل ذلك ، فقتل إلا أقدته منه .

37982 - رواه زيد بن جبير ، عن جزرة بن حميد ، عن عمر بن الخطاب ، سمعه يقول : لا يضرب أحدكم أخاه بمثل أكلة اللحم ، ثم يرى ألا قود عليه ، والله لا آخذ رجلا فعل ذلك إلا أقدت منه .

37983 - رواه حجاج بن أرطأة ، وإسرائيل ، وشريك ، عن زيد بن جبير .

37984 - وبعضهم يقول في حميد : جميل ، والصواب عندهم حميل .

37985 - قال أبو عمر : قد تقدم في باب دية العمد ، إذا قبلت ، من هذا الكتاب ، عن عمر بن الخطاب ، وعثمان ، وعلي ، وزيد بن ثابت ، وأبي موسى ، والمغيرة بن شعبة - رضي الله عنهم - أنهم أثبتوا شبه العمد ، وقضوا فيه بالدية المغلظة ، وإن كانوا اختلفوا في أسنان الإبل فيها .

37986 - ولا مخالف لهم من الصحابة ، ولا من التابعين ، في ما علمته ، إلا اختلافهم في صفة شبه العمد ، وعلى ذلك جمهور الفقهاء ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وأبو ثور .

37987 - وقال الأشجعي ، عن الثوري : شبه العمد أن يضربه بعصا ، أو بحجر ، أو ببندقة فيموت ، ففيه الدية مغلظة ، ولا قود .

37988 - والعمد ما كان بسلاح ، وفيه القود .

[ ص: 250 ] 37989 - قال : والنفس تكون فيها العمد ، وشبه العمد ، والخطأ ، ولا يكون في الجراحات إلا خطأ ، أو عمد .

37990 - وقال أبو نعيم ، الفضل بن دكين ، عن الثوري ، قال : إذا أخذ عودا أو عظما ، فجرح به بطن إنسان فمات ، فهذا شبه عمد ، ليس فيه قود .

37991 - وقال الأوزاعي ، في شبه العمد : هو أن يضربه بعصا ، أو بسقط ، ضربة واحدة ، فيموت منها ، فتكون الدية في ماله ، فإن لم يكن له مال ، فعلى العاقلة .

37992 - قال : وإن ثنى بالعصا ، ثم مات مكانه من الضربة الثانية فعليه القصاص ، فإن لم يمت من الضربة الثانية مكانه ، ثم مات ، فهو شبه العمد ، لا قصاص فيه ، وفيه الدية على الجاني .

37993 - قال : والخطأ على العاقلة .

37994 - وقال أبو حنيفة : شبه العمد كل ما عدا الحديد أو ليطة القصب ، أو النار .

37995 - قال : فإن قتله بحديدة ، أو ليطة قصب ، أو بالنار ، فهو عمد ، وفيه القصاص ، وما سوى ذلك شبه العمد ، وفيه الدية مغلظة على العاقلة ، وعليه الكفارة ، وليس التغليظ عنده إلا في أسنان الإبل خاصة دون عددها .

37996 - وقد تقدم مذهبه ، في دية شبه العمد ، في باب دية العمد إذا قبلت .

37997 - وليس فيما دون النفس عنده شبه عمد ، وبأي شيء ضربه ، [ ص: 251 ] فجرحه ، ولم يقتله ، فعليه القصاص إذا أمكن ، فإن لم يكن ، ففيه الدية مغلظة إذا كانت من الإبل تسقط ما يجب .

37998 - وقال أبو يوسف ، ومحمد : شبه العمد ما لا يقتل مثله ، كاللطمة الواحدة ، والضربة الواحدة بالسوط .

قالا : ولو ذلك حتى صارت جملته ما يقتل ، كان عمدا ، وفيه القصاص بالسيف .

37999 - قالا : وكذلك إذا عرفه بحيث لا يمكنه الخلاص منه .

38000 - وهو قول عثمان البتي ، إلا أن البتي يجعل دية شبه العمد في ماله .

38001 - وقال ابن شبرمة : ما كان من شبه العمد ، فإنه عليه في ماله ، يبدأ بماله ، فيؤخذ حتى لا يترك شيء ، فإن لم يتم ذلك ، كان ما بقي من الدية على عاقلته .

38002 - وقال الشافعي : شبه العمد ما كان عمدا في الضرب ، خطأ في القتل ، وذلك مثل أن يضربه بعصا ، أو عمود خفيف ، أو بحجر لا يشرخ مثله ، أو بحد سيف لم يجرحه به ، وألقاه في نهر أو بحر قريب من البره ، وهو يحسن العوم ، أو ما الأغلب عليه أنه لا يموت من مثله ، فمات ، ففيه الدية مغلظة على العاقلة .

38003 - وقال أحمد بن حنبل : دية شبه العمد على العاقلة في ثلاث سنين ، في كل سنة ثلثها .

38004 - وكذلك قال أبو ثور .

38005 - وقد ذكرنا أقوالهم ، ومذاهبهم في أسنان الإبل ، وفي دية شبه .

[ ص: 252 ] العمد ، في باب دية العمد إذا قبلت ، والحمد لله كثيرا .

38006 - وأما قول مالك : " فقتل العمد عندنا ، أن يعمد الرجل إلى الرجل فيضربه حتى تفيض نفسه " فهذا ما لا خلاف بين العلماء فيه .

38007 - وأما قوله : ومن العمد أيضا أن يضرب الرجل في النائرة تكون بينهما ، ثم ينصرف عنه وهو حي ، فينزى في ضربه ، فيموت ، فتكون في ذلك القسامة " .

38008 - فهذه من مسائل القسامة ، وتأتي في موضعها إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية