الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
38014 - قال مالك : أحسن ما سمعت في تأويل هذه الآية ، قول الله - تبارك وتعالى : ( الحر بالحر والعبد بالعبد ) [ البقرة : 178 ] فهؤلاء الذكور ( والأنثى بالأنثى ) [ البقرة : 178 ] أن القصاص يكون بين الإناث كما يكون بين الذكور ، والمرأة الحرة تقتل بالمرأة ، كما يقتل الحر بالحر . والأمة تقتل بالأمة ، كما يقتل العبد بالعبد ، والقصاص يكون بين النساء كما يكون بين الرجال ، والقصاص أيضا يكون بين الرجال والنساء ، وذلك أن الله تبارك وتعالى قال في كتابه ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ) [ ص: 254 ] [ المائدة : 45 ] فذكر الله - تبارك وتعالى - أن النفس بالنفس ، فنفس المرأة الحرة بنفس الرجل الحر ، وجرحها بجرحه .


38015 - قال أبو عمر : أما قول الله عز وجل ( الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) [ البقرة : 178 ] .

38016 - فأجمع العلماء على أن العبد يقتل بالحر ، وعلى أن الأنثي تقتل بالذكر .

38017 - وكذلك أجمعوا على قتل الذكر بالأنثى ، إلا أن منهم من قال : إن قتل أولياء المرأة الرجل بها ، أدوا نصف الدية ، إن شاءوا وإلا أخذوا الدية .

38018 - ولا يقتل الذكر بالأنثى حتى يؤدوا نصف الدية .

38019 - روي هذا القول ، عن علي - رضي الله عنه - ولا يصح ، لأن الشعبي لم يلق عليا .

38020 - وقد روى الحكم ، عن علي ، وعبد الله ، قال : إذا قتل الرجل المرأة متعمدا ، فهو بها قود .

38021 - وهذا يعارض قول الشعبي ، عن علي - رضي الله عنه - مما روي عنه .

38022 - وروي ذلك عن الحسن أيضا .

[ ص: 255 ] 38023 - واختلف فيه عن عطاء .

38024 - وهو قول عثمان البتي .

38025 - وأما جمهور العلماء وجماعة أئمة الفتيا بالأمصار ، فمتفقون على أن الرجل يقتل بالمرأة ، كما تقتل المرأة به ، لقول الله - عز وجل : ( النفس بالنفس ) [ المائدة : 45 ] ، ولقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " المسلمون تتكافأ دماؤهم " . ولم يخص الله - عز وجل - ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - بما ذكرنا ذكرا من أنثى .

38026 - وليس شيء من هذا مخالفة لكتاب الله - عز وجل - لأن المسلمين لا يجتمعون على تحريف التأويل لكتاب الله - عز وجل - بل الكتاب والسنة بينا مراد قول الله - عز وجل - من قوله " ( الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) [ البقرة : 178 ] وإنما كان يكون ذلك خلافا لكتاب الله - عز وجل - لو قال أحد : إنه لا يقتل حر بحر ، ولا تقتل أنثى بأنثى وهذا لا يقوله أحد ، لإنه خلاف ظاهر الآية ، ورد لها .

38027 - وقد روي عن ابن عباس وغيره من أهل العلم بتأويل القرآن ، أن سبب نزول الآية ، كان لما كان عليه أهل الجاهلية إذا قتل الشريف منهم عبدا ، قالوا لا يقتل به إلا حر ، وكان فيهم القود ، ولم تكن فيهم الدية ، فأنزل الله - عز وجل - : ( الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء ) [ البقرة : 178 ] . يعني الدية : [ ص: 256 ] ( فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ) [ البقرة : 178 ] .

38028 - وأما قول عثمان البتي ومن روى عنه مثل قوله ، في أن المرأة لا يقتل بها الرجل حتى يؤدي أولياؤها نصف الدية ، لأن دية المرأة نصف دية الرجل ، فهذا خلاف النص والقياس والإجماع ، لأن علماء المسلمين مجمعون أن من قطعت يده ، فأخذ لها أرشا ، أو فقئت عينه ، فأخذ لها ديتها ، أو رجله ، أو كان أشل ، أوأعور من غير أن يأخذ لذلك شيئا ، فقتل رجلا سالم الأعضاء أنه ليس لوليه أن يقتل الأعور ، ويأخذ منه نصف الدية من أجل أنه قتل ذا عينين ، وهو أعور ، وقتل ذا يدين وهو أشل .

38029 - وهذا يدل على أن النفس مكافئة للنفس ، ويكافئ الطفل فيها الكبير ، ويقال لقائل ذلك : إن كان الرجل لا تكافئه المرأة ، ولا يدخل تحت قول النبي - صلى الله عليه وسلم : " المسلمون تتكافأ دماؤهم " فلم قتلت الرجل بها ، وهي لا تكافئه ، ثم أخذت نصف الدية .

38030 - والعلماء أجمعوا أن الدية لا تجتمع مع القصاص ، وأن الدية إذا قبلت ، حرم الدم وارتفع القصاص فليس قولك هذا بأصل ولا قياس .

38031 - قال أبو عمر : احتجاج مالك بآية المائدة قوله - عز وجل : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) [ المائدة : 45 ] دليل على أن مذهبه : إن كان ما أنزل الله - عز وجل - في القرآن ، في شرائع الأنبياء - عليهم السلام - ولم ينزل في كتابنا أنه لهم خاصة ، ولا أخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه لهم دوننا ، ولم يشرع لنا [ ص: 257 ] خلافهم ، فهو شرع لنا ، لأن الله - عز وجل - قد أمر نبينا - عليه الصلاة والسلام - بالاقتداء بهم ، إلا أن يشرع له منهاجا غير ما شرع لهم .

38032 - قال الله - عز وجل : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية