الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1631 1630 - مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، أنه أخبره : أن عبد الله بن سهل الأنصاري ، ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر ، فتفرقا في حوائجهما ، فقتل عبد الله بن سهل ، فقدم محيصة ، فأتى هو ، وأخوه حويصة ، وعبد الرحمن بن سهل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذهب عبد الرحمن ليتكلم ، لمكانه من أخيه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " كبر كبر " فتكلم حويصة ومحيصة ، فذكرا شأن عبد الله بن سهل ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم ؟ " قالوا : يا رسول الله ، لم نشهد ولم نحضر ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " فتبرئكم يهود بخمسين يمينا ؟ " فقالوا : يا رسول الله ، كيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ قال يحيى بن سعيد : فزعم بشير بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وداه من عنده .


[ ص: 301 ] 38292 - قال أبو عمر : لم يختلف الرواة عن مالك لهذا الحديث عن يحيى بن سعيد ، في إرساله عن بشير بن يسار ، وأنه ليس فيه لسهل بن أبي حثمة ذكر .

38293 - وإن كان غيره من رواة يحيى بن سعيد ، جعلوه : عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة .

38294 - وذكر جماعة منهم سماع بشير بن يسار له من سهل بن أبي حثمة فإن مالكا في حفظه وإتقانه وعلمه بحديث أهل بلده ، قد أرسل هذا الحديث عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، لم يتجاوز به بشير بن يسار .

38295 - وما أظن البخاري - والله أعلم - ترك إخراج حديث يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار هذا إلا لإرسال مالك له ، ولم يجعل من خالفه ورواه عن يحيى بن سعيد ، وأسنده حجة على مالك ، وخرجه من حديث سعيد بن عبيد الطائي ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة ، ذكره عن أبي نعيم : الفضل بن دكين ، عن سعيد بن عبيد ، عن بشير بن يسار ، وهو مخالف لمعنى ما جاء به يحيى بن سعيد فيه ، من تبدئة الساعي المدعي بالأيمان .

38296 - وقد أخطأ جماعة من أهل العلم بالحديث سعيد بن عبيد ، في روايته هذه ، عن بشير بن يسار ، وذموا البخاري في تخريجه حديث سعيد بن عبيد ، وتركه [ ص: 302 ] حديث يحيى بن سعيد ، الذي فيه تبدئة المدعي بالأيمان .

38297 - وممن روى هذا الحديث مسندا عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة ، سفيان بن عيينة ، وحماد بن زيد ، وعباد بن العوام ، والليث بن سعد ، وبشير بن الفضل .

38298 - وقال فيه حماد بن زيد ، وعباد بن العوام ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة ، ورافع بن خديج ، فزاد فيه مع سهل بن أبي حثمة ، رافع بن خديج .

38299 - وقال فيه الليث ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة : قال يحيى : حسبت أنه قال : ورافع بن خديج .

38300 - وكلهم رووه عن يحيى بن سعيد بمعنى ما رواه مالك ، في تبدئة الأنصار المدعين بالأيمان ، إلا سفيان بن عيينة ، فإنه اختلف عنه في ذلك ، فرواه عنه ابن أبي عمر بسياقة مالك ، وقال في آخره : لا أدري بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيمين المدعين أوالمدعى عليهم .

38301 - ورواه جماعة عن يحيى بن سعيد ، قال : أخبرني بشير بن يسار ، سمع سهل بن أبي حثمة يقول : وجد عبد الله بن سهل قتيلا بخيبر . . فذكر الحديث ، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للأنصار ، حويصة ومحيصة وعبد الرحمن : " تبرئكم يهود بخمسين يمينا ، أنهم لم يقتلوه " . فقالوا : وكيف نرضى بأيمان قوم كفار قال : " فيقسم منكم خمسون أنهم قتلوه " ، قالوا : كيف نقسم [ ص: 303 ] على ما لم نر ، فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده ، فبدأ - عليه السلام - بقوله : " تبرئكم يهود " ، قبل أن يقول : " فيقسم منكم " وهذا معنى ما رواه سعيد بن عبيد ، عن بشير بن سهل ، في هذا الحديث .

38302 - ورواه سائر من رواه عن يحيى بن سعيد بمعنى ما رواه مالك من تبدئة المدعي بالأيمان .

38303 - وكذلك رواه الحميدي ، عن سفيان بن عيينة ، وهو أثبت الناس في ابن عيينة ، وهو الصحيح ، ومن قال فيه عن ابن عيينة تبدئة اليهود بالأيمان ، فقد أخطأ ، ولم يصب ، والصحيح في حديث يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، تبدئة المدعين وهم الأنصار بالأيمان ، والله أعلم .

38304 - وكذلك رواه محمد بن إسحاق ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة .

38305 - وعن الزهري ، عن سهل بن أبي حثمة ، ذكر فيه تبدئة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأنصار بالأيمان .

38606 - وقد ذكرنا في " التمهيد " الروايات بذلك كله بالأسانيد عن من ذكرنا فسياق كل واحد منهم بالحديث بمعنى ما وصفت عنه ، إلا رواية محمد بن إسحاق التي ذكرنا ، فنذكرها هنا ، لأنا لم نذكرها هناك .

38307 - حدثني عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثني قاسم بن أصبغ ، [ ص: 304 ] قال : حدثني عبيد الله بن عبد الواحد ، قال : حدثني أحمد بن محمد بن أيوب ، قال : حدثني إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق ، قال حدثني الزهري ، عن سهل بن أبي حثمة .

38308 - وحدثني بشير بن يسار ، مولى بني حارثة ، عن سهل بن أبي حثمة ، قال : أصيب عبد الله بن سهل بخيبر ، وكان خرج إليها في أصحاب لهم يتمارون منها تمرا ، فوجد في عين قد كسرت عنقه ، ثم طرح فيها ، فأخذوه ، فغيبوه ، ثم قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له شأنه فتقدم إليه أخوه ، عبد الرحمن ومعه ابنا عمه ، حويصة ، ومحيصة ابنا مسعود ، وكان عبد الرحمن من أحدثهم سنا ، وكان صاحب الدم وكان ذا قدم في القوم ، فلما تكلم قبل ابني عمه ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " الكبر الكبر " فسكت فتكلم حويصة ومحيصة ، ثم تكلم هو بعد ، فذكروا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل صاحبهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " تسمون قاتلكم ، ثم تحلفون عليه خمسين يمينا ، فيسلم إليكم " فقالوا : يا رسول الله ما كنا لنحلف على ما لا نعلم ، قال : " فيحلفون لكم بالله - يعني اليهود - خمسين يمينا ، ما قتلوه ، ولا يعلمون له قاتلا ، ثم يبرءون من دمه " . قالوا : يا رسول الله ما كنا لنقبل أيمان يهود ، ما فيهم من الكفر أعظم من أن يحلفوا على إثم ، فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده بمائة ناقة .

قال سهل : فوالله ما أنسى بكرة منها حمراء ضربتني وأنا أحوزها .


38309 - قال أبو عمر : ففي هذه الآثار كلها من رواية مالك وغيره ، على ما [ ص: 305 ] ذكرنا في " التمهيد " تبدئة المدعين للدم بالأيمان في القسامة .

38310 - وإليها ذهب مالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وهؤلاء أئمة أهل الحديث .

38311 - قال أحمد بن حنبل : الذي أذهب إليه في القسامة ، حديث بشير بن يسار ، من رواية يحيى بن سعيد ، فقد وصله عنه حافظ ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد .

38312 - حكى هذا عنه أبو بكر الأثرم ، وحسبك بأحمد إمامة في الحديث ، وعلما بصحيحه من سقيمه .

38313 - وقد ذكرنا حديث يحيى بن سعيد ، من رواية حماد بن زيد وغيره عنه ، في " التمهيد " والحمد لله كثيرا .

38314 - وأما الآثار التي فيها أن اليهود بدأهم النبي - عليه السلام - بالأيمان ، فمنها ما رواه سعيد بن عبيد الطائي الكوفي ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة ،

38315 - أخبرنا عبد الله بن محمد بن بكر ، قال : حدثني أبو داود ، قال : حدثني محمد بن عبد الملك ، قال : حدثني أحمد بن محمد بن زياد ، قال : حدثني الحسن بن محمد بن الصباح ،

38316 - وحدثني سعيد بن نصر ، قال : حدثني قاسم بن أصبغ ، قال : [ ص: 306 ] حدثني محمد ، قال : حدثني أبو بكر ،

38317 - قالوا كلهم : حدثني أبو نعيم ، الفضل بن دكين .

38318 - وحدثني عبد الوارث ، قال : حدثني قاسم ، قال : حدثني أبو إسماعيل ، محمد بن إسماعيل السلمي ، قال : حدثني أبو نعيم ، الفضل بن دكين ، قال : حدثني سعيد بن عبيد الطائي ، عن بشير بن يسار ، أن رجلا من الأنصار يقال له : سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر ، فتفرقوا فيها ، فوجدوا منهم قتيلا ، فقالوا للذي وجدوه عندهم : قتلتم صاحبنا ، فقالوا : ما قتلناه ، ولا علمنا له قاتلا ، قال : فانطلقوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا نبي الله ، انطلقنا إلى خيبر ، فوجدنا أخانا قتيلا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " الكبر الكبر " وقال لهم : " تأتون بالبينة على من قتل " فقالوا : ما لنا بينة ، قال : " فيحلفون لكم " قالوا : ما نرضى أيمان يهود ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطل دمه ، فوداه بمائة من إبل الصدقة .

38319 - وما حدثنا عبد الله ، قال : حدثني محمد ، قال : حدثني أبو داود ، قال : حدثني الحسن بن علي ، قال : حدثني عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار ، عن رجال من الأنصار ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ليهود ، وبدأ بهم ، " أيحلف منكم خمسون رجلا ؟ " فأبوا ، فقال للأنصار : " أتحلفوا " ، فقالوا : أنحلف على الغيب يا رسول الله ؟ فجعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية على يهود ، لأنه وجد بين أظهرهم .

[ ص: 307 ] 38320 - وحدثني عبد الله ، قال : حدثني محمد ، قال : حدثني أبو داود ، قال : حدثني الحسن بن علي بن راشد ، قال : حدثني هشيم ، عن أبي حيان التيمي ، قال : حدثني عباية بن رفاعة ، عن رافع بن خديج ، قال : أصبح رجل من الأنصار مقتولا ، فانطلق أولياؤه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكروا ذلك له ، فقال لهم : " شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم " ، قالوا : يا رسول الله لم يكن ثم أحد من المسلمين ، وإنما هم يهود ، وقد يجسرون على أعظم من هذا ، قال : " فاختاروا منكم خمسين رجلا يحلفون " فأبوا ، فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده .

38321 - قال أبو عمر : هذا خلاف ما رواه حماد بن زيد ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة ، ورافع بن خديج ، لأن في حديثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدأ الأنصار بالأيمان ، كما رواه مالك ، وجماعة عن يحيى بن سعيد .

38322 - وفي هذا الحديث عن رافع بن خديج ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل الأنصار البينة ، فلما لم تكن لهم بينة ، أراد أيمان اليهود ، فلم يرضوا بأيمان اليهود ، فأراد أيمانهم ، ليقضي لهم بما شاء الله من دية أو قود ، فلم يفعلوا ، فوداه من عنده .

38323 - وهذه قصة لم يحكم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء ، لإباء المدعين من الأيمان ، ومن قبول أيمان اليهود ، وتبرع بأن جعل الدية من مال الله - عز وجل - لئلا يطل دم مسلم ، والله أعلم .

38324 - وما أعلم في شيء من الأحكام المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الاضطراب ، [ ص: 308 ] والتضاد ما في هذه القصة ، فإن الآثار فيها متضادة متدافعة ، وهي قصة واحدة ، وفي مذاهب العلماء من الاختلاف في القسامة وما يوجبها والأيمان فيها ، ومن يبدءون بها ، وهل يجب بها القود أو لا يستحق بها غير الدية ؟ وفي من أثبتها وذهب فيها إلى بعض الوجوه التي ذكرنا ، ومن نفاها جملة ولم يرها .

38325 - ولهم في ذلك من التنازع ما يضيق بتهذيبه وتلخيص وجوبه كتاب ، فضلا عن أن يجمع في باب .

38326 - وسنذكر منه هنا ما يكفي ويشفي - إن شاء الله عز وجل - وجملة ذلك أن من أثبت القسامة فريقان :

38327 - فطائفة منهم وهم ، مالك ، والشافعي ، والليث ، يعتبرون الشبهة للبينة ، واللوث ، واللطخ وما غلب على العقل والظن فهم يطلبون ما يتطرق به إلى حراسة الدماء ، ولم يطلب أحد منهم الشهادة القاطعة ، ولا العلم الصحيح البت ، وهؤلاء وأصحابهم يبدئون الذين يدعون الدم بالأيمان في دعوى الدم .

38328 - وطائفة أهل العراق ، والكوفيون ، وأكثر البصريين ، يوجبون القسامة والدية ، لوجود القتيل على أهل الموضع ، ما يعتبرون غير ذلك ، وكلهم يرى الأيمان على المدعى عليهم مع الدية دون المدعين وكلهم واحد .

38329 - وكل واحد من الفريقين ينزع بابا نشهد له بما ذهب إليه ، فنبدأ بقول مالك - رحمه الله - ثم نردفه بقول غيره ، بحول الله وعونه .

التالي السابق


الخدمات العلمية