الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 309 ] 38330 - قال مالك : الأمر المجتمع عليه عندنا ، والذي سمعت ممن أرضى في القسامة ، والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث ، أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة ، فيحلفون ، وأن القسامة لا تجب إلا بأحد أمرين ، إما أن يقول المقتول : دمي عند فلان ، أو يأتي ولاة الدم بلوث من بينة ، وإن لم تكن قاطعة على الذي يدعى عليه الدم ، فهذا يوجب القسامة للمدعين الدم على من ادعوه عليه ، ولا تجب القسامة عندنا إلا بأحد هذين الوجهين .

قال مالك : وتلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا ، والذي لم يزل عليه عمل الناس أن المبدئين بالقسامة أهل الدم ، والذين يدعونه في العمد والخطأ .

قال مالك : وقد بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحارثيين في قتل صاحبهم الذي قتل بخيبر .


38331 - قال أبو عمر : لم يختلف قول مالك ولا أصحابه أن قول المقتول قبل موته : دمي عند فلان ، أنه لوث يوجب القسامة ، ولم يتابع مالكا على ذلك أحد من أئمة أهل العلم ، إلا الليث بن سعد ، فإنه تابعه فقال : الذي توجبه القسامة أن يقول المقتول : فلان قتلني ، أو يأتي من الصبيان والنساء والنصارى ومن يشبههم ممن لا يقطع بشهادته أنه رأى هذا حين قتل هذا ، فإن القسامة تكون مع ذلك .

[ ص: 310 ] 38332 - واختلف أصحاب مالك ، فيما رووه عن مالك ، في معنى اللوث الموجب للقسامة ، فروى ابن القاسم عن مالك ، أن الشاهد الواحد العدل لوث .

38333 - وروى عنه أشهب ، أن الواحد العدل لوث ، وإن لم يكن عدلا ، قال : قال لي مالك : اللوث : الأمر الذي ليس بقوي ولا قاطع .

38334 - واختلفوا في المرأة الواحدة ، هل تكون شهادتها لوثا توجب القسامة ؟ وكذلك اختلفوا في النساء والصبيان .

38335 - وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك ، في كتاب اختلاف أقوال مالك وأصحابه .

38336 - وقال الشافعي : إذا مثل الطيب مثل السلب الذي قضى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقسامة حكمت بها ، وجعلت الدية على المدعى عليهم ، فإن قيل : وما كان السبب الذي حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟ قيل : كانت خيبر جار يهود محضة ، ولا يخالطهم غيرهم ، وكانت العداوة بين الأنصار وبينهم ظاهرة ، وخرج عبد الله بن سهل بعد العصر ، فوجد قتيلا قبل الليل ، فيكاد أن يغلب على من سمع هذا أنه لم يقتله إلا بعض اليهود ، فإذا كانت دار يهود محضة أو قبيلة ، [ ص: 311 ] وكانوا أعداء المقتول ، فادعى الولي قتله عليهم فلهم القسامة .

38337 - قال : وكذلك لو دخل نفر بيتا ، لم يكن معهم غيرهم ، أوكانوا في صحراء ، أو كان زحام فلا يفترقون إلا وقتيل بينهم ، أو وجد قتيل في ناحية ليس إلى جنبه عين ولا أثر إلا برجل مخضب بدمه في مقامه ذلك ، أو تأتي بينة متفرقة من المسلمين ، من نواح شتى لم يجتمعوا ، فيشهد كل واحد منهم على الانفراد ، أنه قتله ، فتتوطأ شهادتهم ، ولم يسمع بعضهم شهادة بعض ، ولم يكونوا ممن يعدل ، أو يشهد رجل عدل أنه قتله ، لأن كل شيء من هذا يغلب على حكم الحاكم أنه كما ادعى ولي المقتول .

38338 - قال الشافعي : والأصل المجتمع عليه أن اليمين لا يستحق بها شيء ، وإنما هي لدفع الدعوى ، إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سن في الأموال أن تؤخذ باليمين مع الشاهد ، وفي دعوى الدماء أن تستحق بها إذا كان معها ما يغلب على قلوب الحكام أنه ممكن غير مدفوع من الأموال التي وصفنا .

38339 - قال : وللولي أن يقسم على الواحد والجماعة ، وكل ما أمكن أن يكون معهم وفي جملتهم ، وسواء كان بالقتيل جرح أو أثر ، أو لم يكن ، لأنه قد يقتل بما لا أثر له .

38340 - قال : فإن أنكر المدعى عليه أن يكون فيهم ، لم يقسم الولي عليه إلا [ ص: 312 ] ببينة أنه كان فيهم ، أو إقرار منه بذلك .

38341 - قال : ولا ينظر إلى دعوى الميت ، وقوله : دمي عند فلان ، لأن السنة المجتمع عليها ألا يعطى أحد بدعواه شيئا ، دما ولا غيره .

38342 - قال : ولورثة القتيل أن يقسموا ، وإن كانوا غيبا عن موضع القتيل ، لأنه ممكن أن يعرفوا ذلك باعتراف القاتل عندهم ، وبشهادة بينة لا يقبلها الحاكم من أهل الصدق عندهم ، وغير ذلك من وجوه ما يعلم ما غاب .

38343 - وينبغي للحاكم أن يقول لهم : اتقوا الله - عز وجل - ولا تحلفوا إلا بعد الاستثبات واليقين على من تدعون الدم عليه ، وعليه أن يقبل أيمانهم متى حلفوا ، مسلمين كانوا أو كافرين على مسلمين وعلى كافرين ، لأن كلا ولي دمه ووارث ديته .

38344 - قال أبو عمر : ليس أحد من أهل العلم يجيز لأحد أن يحلف على ما لم يعلم ، أو أن يشهد بما لم يعلم ، ولكنه يحلف على ما لم ير ، ولم يحضر ، إذا صح عنده وعلمه بما يقع العلم بمثله ، فإذا صح ذلك عنده ، واستيقنه حلف عليه ، وإلا لم يحل .

38345 - وقال أبو حنيفة وأصحابه ، وأبو يوسف ، ومحمد : إذا وجد [ ص: 313 ] قتيل في محلة ، وبه أثر ، وادعى الولي على أهل المحلة أنهم قتلوه ، أو على أحد منهم بعينه ، استحلف من أهل المحلة خمسون رجلا بالله ما قتلناه ، ولا علمنا له قاتلا ، يختارهم الولي ، فإن لم يبلغوا خمسين ، كررت عليهم الأيمان ، ثم يغرمون الدية ، وإن نكلوا عن اليمين ، حبسوا حتى يقروا أو يحلفوا .

38346 - وهو قول زفر .

38347 - وروى الحسن بن زياد ، عن أبي يوسف ، إذا أبوا أن يقسموا ، تركهم ولم يحبسهم ، وجعلت الدية على العاقلة في ثلاث سنين .

38348 - وقالوا جميعا : إن ادعى الولي على رجل من غير أهل المحلة ، فقد أبرأ أهل المحلة ، ولا شيء عليهم .

38349 - وقول الثوري مثل قول أبي حنيفة في ذلك كله ، إلا أن ابن المبارك روى عنه ، إذا ادعى الولي على رجل بعينه ، فقد أبرأ أهل المحلة غيره .

38350 - وقال ابن شبرمة : إذا ادعى الولي على رجل بعينه من أهل المحلة ، فقد أبرأ أهل المحلة ، وصار دمه هدرا ، إلا أن يقيم البينة على ذلك الرجل .

38351 - وقال عثمان البتي : يستحلف من أهل المحلة خمسون رجلا ، ما قتلناه ، ولا علمنا قاتله ، ثم لا شيء عليهم غير ذلك ، إلا أن يقيم البينة على رجل بعينه أنه قتله .

38352 - قال أبو عمر : قول عثمان البتي مخالف لما قضى به عمر - رضي الله عنه - من رواية الكوفيين .

[ ص: 314 ] 38353 - وعن الثوري ، وغيره عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، الأزمع ، أن عمر بن الخطاب أحلف الذين وجد القتيل عندهم ، وأغرمهم الدية ، فقال له الحارث بن الأزمع : أيحلفون ويغرمون ؟ قال : نعم .

38354 - وروى الحسن ، عن الأحنف ، عن عمر ، أنه اشترط على أهل الذمة ، إن قتل رجل من المسلمين ، فعليكم الدية .

38355 - قال أبو عمر : اتفق مالك ، والليث ، والشافعي ، إذا وجد قتيل في محلة قوم ، أو في فنائهم ، لم يستحق عليهم بوجوده فيهم شيء ، ولم تجب فيهم قسامة بوجوده حتى تكون الأسباب التي شروطها في وجوب القسامة ، على ما قدمنا عنهم .

38356 - وهو قول أحمد ، وداود .

التالي السابق


الخدمات العلمية