الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
38357 - قال مالك : فإن حلف المدعون استحقوا دم صاحبهم وقتلوا من حلفوا عليه ، ولا يقتل في القسامة إلا واحد ، لا يقتل فيها اثنان ، يحلف من ولاة الدم خمسون رجلا خمسين يمينا ، فإن قل عددهم أو نكل بعضهم ردت الأيمان عليهم ، إلا أن ينكل أحد من ولاة المقتول ، ولاة الدم ، الذين يجوز لهم العفو عنه ، فإن نكل أحد من أولئك فلا سبيل إلى الدم إذا نكل أحد منهم .

38358 - قال مالك : وإنما ترد الأيمان على من بقي منهم ، إذا نكل أحد ممن لا يجوز له عفو ، فإن نكل أحد من ولاة الدم الذين يجوز لهم [ ص: 315 ] العفو عن الدم ، وإن كان واحدا ، فإن الأيمان لا ترد على من بقي من ولاة الدم ، إذا نكل أحد منهم عن الأيمان ، ولكن الأيمان إذا كان ذلك ، ترد على المدعى عليهم ، فيحلف منهم خمسون رجلا ، خمسين يمينا ، فإن لم يبلغوا خمسين رجلا ، ردت الأيمان على من حلف منهم ، فإن لم يوجد أحد إلا الذي ادعي عليه ، حلف هو خمسين يمينا وبرئ .


38359 - قال أبو عمر : قد تقدم في باب العفو اختلاف الفقهاء في من له العفو عن الدم .

38360 - والجمهور يرون أن كل وارث عندهم جائز للدية ، والمال ، مستحق للدم ، لأن الدية إنما تؤخذ عن الدم ، وعفو كل وارث عندهم جائز عن الدم فلا معنى لإعادة ذلك هاهنا .

38361 - وأما قوله : فإن حلف المدعون ، استحقوا دم صاحبهم ، وقتلوا من حلفوا عليه ، فإن العلماء قد اختلفوا في ما يستحق بأيمان القسامة ، هل يستحق بها الدم أو الدية ؟

38362 - فالذي ذهب إليه مالك في ذلك ، قول عبد الله بن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز .

38363 - وقال الزهري ، وابن أبي ذئب .

38364 - وبه قال أحمد بن حنبل ، وداود .

[ ص: 316 ] 38365 - وقال إسحاق بن راهويه : من قال بالقود في القسامة ، لا أعينه ، وأما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : لا يقاد بالقسامة ، ولكن تجب بالقسامة الدية .

38366 - قال : والذين يبدءون عندنا بالأيمان في القسامة أولياء المقتول ، فإن نكلوا ، عادت الأيمان إلى أولياء الذين ادعي عليهم القتل ، وإن نقصوا عن خمسين ، ردت عليهم الأيمان .

38367 - وأما قول مالك : لا يقتل في القسامة إلا واحد ولا يقتل بها اثنان ، فقد اتفق على أنه لا يقتل بالقسامة إلا واحد ، لأن الذين يقولون : إن الجماعة تقتل بالواحد إذا اجتمعوا على قتله عمدا ، لا يوجبون قودا بالقسامة ، وإنما يوجبون الدية .

38368 - والزهري ، وداود ، لا يقتلان اثنين بواحد ، كما لا تقطع عند الجميع يدان بيد .

38369 - وقد مضت هذه المسألة في موضعها .

38370 - ذكر وكيع ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي مليكة ، أن ابن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، أقادا بالقسامة .

38371 - وروى معمر ، عن الزهري ، أنه كان يقول : القسامة يقاد بها .

38372 - وابن أبي ذئب عن الزهري مثله ، وزاد : ولا يقتل بالقسامة إلا واحد .

[ ص: 317 ] 38373 - وقال الشافعي ، في المشهور من مذهبه ، وأبو حنيفة ، والثوري ، والحسن بن حي : لا قود في القسامة ، ولا يستحق بها إلا الدية .

38374 - وهو قول جماعة أهل العراق .

38375 - وقد روي عن أبي بكر ، وعمر ، أنهما لم يقيدا بالقسامة ، وقد قيل : إن أول من حكم بها عمر ، وأنه لا يصح فيها عن أبي بكر شيء ، لأنه من مراسيل الحسن .

38376 - وذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، قال حدثني عبد السلام بن حرب ، عن عمرو ، عن الحسن ، أن أبا بكر ، وعمر ، والخلفاء ، والجماعة الأولى ، لم يكونوا يقتلون بالقسامة .

38377 - قال : وحدثني وكيع ، قال : حدثني المسعودي ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، قال : قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه : القسامة توجب العقل ولا تشيط الدم .

38378 - قال : وحدثني محمد بن بشر ، قال : حدثني سعيد ، قال : حدثني أبو معشر ، عن إبراهيم ، قال : القسامة تستحق بها الدية .

38379 - قال : وحدثني عبد الرحيم ، عن الحسن بن عمرو ، عن فضيل ، عن إبراهيم ، قال : القود بالقسامة جور .

[ ص: 318 ] 38380 - وحدثني محمد بن بشر ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال : القسامة تستحق بها الدية ، ولا يقاد بها .

38381 - وقال الحسن : القتل بالقسامة جاهلية .

38382 - وذكر عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قلت لعبيد الله بن عمر : أعلمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقاد بالقسامة ؟ " قال : لا . قلت : فأبو بكر ؟ قال : لا . قلت فعمر ؟ قال : لا . قلت : فكيف تجترءون عليها ؟ فسكت .

38383 - قال : فقلت ذلك لمالك ، فقال : لا تضع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الختل ، لو ابتلي بها لأقاد بها .

38384 - وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني يونس بن يوسف ، قال : قلت لسعيد بن المسيب ، أعجب من القسامة ، يأتي الرجل يسأل عن القاتل والمقتول ، لا يعرف القاتل من المقتول : ثم يقسم ؟ قال : قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقسامة في قتيل خيبر ، ولو علم أن الناس يجترءون عليها ، ما قضى بها .

38385 - وأما قول مالك : يحلف من ولاة الدم خمسون رجلا خمسين يمينا ، فإن نكلوا ، أو نكل من يجوز له العفو منهم ، ردت الأيمان على المدعى عليهم ،

38386 - فإن مالكا ، والشافعي وأصحابهما ، والليث ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وداود ، يقولون يبدأ المدعون بالأيمان في القسامة .

[ ص: 319 ] 38387 - إلا أن داود لا يقضي بالقسامة ، إلا أن يكون القوم يدعون على أهل مدينة كبيرة ، أو قرية كبيرة هم أعداء لهم ، يدعون أن وليهم قتل عمدا ، فلا يقضى بالقسامة في شيء غير ذلك ، ولا يقضى بها في دعوى قتل الخطأ ، ولا في شيء يشبه المعنى المذكور .

38388 - وأما اشتراط العداوة بين المقتول وأوليائه ، وبين القاتل وأهل موضعه ، فاشترطها الشافعي ، وأحمد ، وداود ، وليس ذلك في شرط مالك ، فيما يوجب القسامة .

38389 - حدثني عبيد بن محمد ، قال : حدثني الحسن بن سلمة بن معلى ، قال : حدثني ابن الجارود ، قال : حدثني إسحاق بن منصور ، قال : قال لنا أحمد بن حنبل ، في الذي ذهب إليه في القسامة ، حديث بشير بن يسار : إذا كان بين القوم عداوة وشحناء ، كما كان بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين اليهود فوجد فيها القتيل ، ادعى أولياؤه عليهم .

38390 - وأما فقهاء الكوفة ، والبصرة ، وكثير من أهل المدينة ، فإنهم يبدئون في القسامة المدعى عليهم بالأيمان ، فإن حلفوا ، بروا عند بعضهم ، وعند أكثرهم ، يحلفون ويغرمون الدية اتباعا لعمر - رضي الله عنه - وهو سلفهم في ذلك .

38391 - وذكر عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : ابن شهاب يقول : سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون اليمين على المدعى عليهم ، إذا كانوا جماعة ، أوعلى المدعى عليه إذا كان واحدا ، وعلى أوليائه ، يحلف منهم خمسون رجلا ، إذا لم تكن بينة يؤخذ بها ، فإن نكل منهم رجل واحد ردت قسامتهم ووليها المدعون ، فيحلفون بمثل ذلك ، فإن حلف منهم خمسون ، استحقوا الدية ، وإن نقصت [ ص: 320 ] قسامتهم ، ورجع منهم واحد ، لم يعطوا الدية .

38392 - قال أبو عمر : هذا خلاف ما تقدم عن ابن شهاب ، أنه يوجب القود بالقسامة ، لأنه لم يوجب بها هاهنا إلا الدية .

38393 - وذكر عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار ، عن رجال من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ليهود بدءا بهم ، قال : " يحلفون لكم خمسون رجلا " فأبوا . فقال للأنصار : " أتحلفون ؟ " فقالوا : لا نحلف على الغيب ، فجعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية على اليهود ، لأنه وجد بين أظهرهم .

38394 - قال أبو عمر : هذه حجة قاطعة للثوري ، وأبي حنيفة ، وسائر أهل الكوفة .

38395 - قال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرنا الفضل عن الحسن ، أنه أخبره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ باليهود ، فأبوا أن يحلفوا ، فرد القسامة على الأنصار ، وجعل العقل على اليهود .

38396 - قال : وأخبرني معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن يحيى بن سعيد ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالأنصار ، وقال لهم : " احلفوا واستحقوا " فأبوا أن يحلفوا ، فقال : " أيحلف لكم يهود ؟ " ما يبالي اليهود أن يحلفوا ، فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده بمائة من الإبل .

[ ص: 321 ] 38397 - قال أبو عمر : قد تقدمت أحاديث مسندة في هذا الباب بالقولين جميعا ، وذلك يغني عن إعادتها .

38398 - وذكر أبو بكر ، قال : حدثني أبو معاوية ، وشبابة بن سوار ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري قال : قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القسامة ، أن اليمين على المدعى عليهم .

38399 - قال أبو عمر : هذا خلاف ما تقدم من رواية ابن إسحاق ، عن سهل بن أبي حثمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم .

38400 - قال أبو بكر : وحدثني أبو معاوية ، ومعن بن عيسى ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، أنه كان يرى القسامة على المدعى عليهم .

38401 - قال : وحدثني محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن عمر ، أنه سمع أصحابا لهم يحدثون ، أن عمر بن عبد العزيز بدأ المدعى عليهم باليمين ، ثم ضمنهم العقل .

38402 - قال أبو عمر : وأخبرنا أبو معاوية عن مطيع ، عن فضيل بن عمرو ، عن ابن عباس ، أنه قضى بالقسامة على المدعى عليهم .

38403 - قال أبو عمر : السنة المجتمع عليها ; أن البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر .

38404 - يروى من أخبار الآحاد ، عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثنا [ ص: 322 ] عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثني قاسم بن أصبغ ، قال : حدثني محمد بن إسماعيل الصائغ ، وحدثنا أحمد بن قاسم ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، قالا : حدثني يحيى بن أبي بكر ، قال : حدثني نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، قال : كتبت إلى ابن عباس ، في امرأتين ، أخرجت إحداهما يدها تشخب دما ، فقالت : أصابتني هذه ، وأنكرت الأخرى ، قال : فكتب إلي ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن اليمين على المدعى عليه " ، وقال : " لو أن الناس أعطوا بدعواهم ، لادعى ناس دماء قوم وأموالهم " ، ادعها ، فاقرأ عليها : ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ) [ آل عمران : 77 ] فقرأت عليها ، فاعترفت ، فبلغه ذلك فسره .

38405 - وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثني قاسم ، قال : حدثني محمد بن الجهم ، قال : حدثني عبد الوهاب ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى ناس دماء قوم وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه " .

38406 - وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثني قاسم ، قال : حدثني عبيد الله بن عبد الواحد ، قال : حدثني أحمد بن محمد بن أيوب ، قال : حدثني إبراهيم بن سعد ، عن ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن محمد بن قبطي أحد بني حارثة ، قال محمد بن إبراهيم : وايم الله ، ما كان سهل بأكثر علما منه ، ولكنه كان أسن منه ، إنه قال : ما كان الشأن هكذا ، ولكن سهلا [ ص: 323 ] أوهم ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأنصار : " احلفوا " على ما لا علم لكم به ، ولكنه كتب إلى يهود حين كلمته الأنصار أنه قد وجد قتيل بين أظهركم ، فدوه ، فكتبوا له يحلفون ما قتلوه ، ولا يعلمون له قاتلا ، فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده .

38407 - قال أبو عمر : ليس مثل هذا عند أهل العلم بشيء ، لأن شهادة العدل لا تدفع بالإنكار لها ، لأن الإنكار لها جهل بها ، وسهل قد شهد بما علم ، وحضر القصة ، وركدته منها ناقة حمراء .

التالي السابق


الخدمات العلمية