الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 332 ] ( 2 ) باب من تجوز قسامته في العمد من ولاة الدم . 1631 - قال مالك : الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا ، أنه لا يحلف في القسامة في العمد أحد من النساء ، وإن لم يكن للمقتول ولاة إلا النساء ، فليس للنساء في قتل العمد قسامة ولا عفو .


38447 - قال أبو عمر : قد تقدم القول في من له العفو من ولاة الدم .

38448 - وأما من له القسامة في قتل العمد من الأولياء ، فإن الشافعي ، وكل من رأى أن القسامة لا يقاد بها ، فإنهم يقولون : إن كل وارث للمقتول ، يقسم مع الأولياء ، ويرثون الدية .

38449 - ومن لا يرى أن يقسم الأولياء ، وإنما يقسم المدعى عليهم ، ويغرمون ، وهو مذهب الكوفيين ، وخلافهم أبعد .

38450 - ويحيى على قول أحمد في قياسة كقول مالك .

38451 - وهو قول داود ، وأهل الظاهر .

38452 - قال مالك ، في الرجل يقتل عمدا : أنه إذا قام عصبة المقتول أو مواليه ، فقالوا : نحن نحلف ونستحق دم صاحبنا ، فذلك لهم .

38453 - قال مالك : فإن أراد النساء أن يعفون عنه ، فليس ذلك لهن ، العصبة والموالي أولى بذلك منهن ، لأنهم هم الذين استحقوا الدم وحلفوا عليه .

[ ص: 333 ] 38454 - قال أبو عمر : هذه مسألة متعلقة بمسألة العفو ، وبالتي قبلها ، وقد تقدم القول فيها ، أن سائر العلماء يقولون : إن كل وارث له العفو ، وهو ولي الدم .

38455 - والحجة لمالك ، أن العقل لما كان على العصبة دون من كان من الورثة ، كانوا أولى بالدم ، وبالعفو ممن لا يعقل ، لأن السنة المجتمع عليها ، وقضى بها عمر ، وعلي - رضي الله عنهما - وغيرهما ، أن المرأة ترث من دية زوجها ، وليس من عاقلته ، فالقياس على هذا إن كان العقل لازما له ، كان وليا للدم ، وكان له العفو ، دون من ليس كذلك .

38456 - وحجة الشافعي ، والكوفيين ، أنها دية ، فكل من كان وارثا لها ، كان وليا لها ، وجاز له العفو عنه ، وعن نصيبه منها .

38457 - قال مالك : وإن عفت العصبة أو الموالي ، بعد أن يستحقوا الدم ، وأبى النساء ، وقلن : لا ندع قاتل صاحبنا ، فهن أحق وأولى بذلك ، لأن من أخذ القود أحق ممن تركه من النساء والعصبة ، إذا ثبت الدم ووجب القتل .

38458 - قال أبو عمر : يمكن أن يحتج لقول مالك هذا ، بظاهر قول الله - عز وجل : ( ولكم في القصاص حياة ) [ البقرة : 179 ] .

38459 - وفيه من الردع والزجر والتشديد ما فيه ، فكان القائم بذلك أولى ممن عفي عنه ، والله - عز وجل - أعلم .

38460 - وحجة سائر العلماء ، أن الولي له السلطان الذي جعله الله له في [ ص: 334 ] العفو والقود ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعله بين خيرتين ، بين أن يعفو ، أو يقتص ، وإن شاء عفا على دية أو على غير دية .

38461 - وهذه مسألة قد أفردنا لها بابا ، وأوضحنا فيه معنى قول الله - عز وجل : ( فمن عفي له من أخيه شيء ) [ البقرة : 178 ] . وذكرنا ما للعلماء من التنازع في ذلك . والحمد لله كثيرا .

38462 - قال مالك : لا يقسم في قتل العمد من المدعين إلا اثنان فصاعدا ، تردد الأيمان عليهما حتى يحلفا خمسين يمينا ثم قد استحقا الدم وذلك الأمر عندنا .

38463 - قال أبو عمر : ظاهر الحديث يشهد لقول مالك هذا ، لأنه قال لأخي المقتول عبد الرحمن بن سهل ولابني عمه ، حويصة ومحيصة : " تحلفون وتستحقون " ولم يقل للأخ وحده : تحلف .

38464 - ومعلوم أن الأخ يحجب ابني عمه عن ميراث أخيه .

38465 - وهذا رد على الشافعي في قوله : لا يحلف إلا الورثة من الرجال والنساء ، وإن كان واحدا ، حلف خمسين يمينا ، وحكم له بالدية .

38466 - وأما الكوفيون ، فلا يحلف عندهم المدعون ، على ما ذكرنا عنهم بما لا معنى لتكراره .

38467 - قال مالك : وإذا ضرب النفر الرجل حتى يموت تحت أيديهم قتلوا به جميعا ، فإن هو مات بعد ضربهم كانت القسامة ، وإذا [ ص: 335 ] كانت القسامة لم تكن إلا على رجل واحد ، ولم يقتل غيره ، ولم نعلم قسامة كانت قط إلا على رجل واحد .

38468 - قال أبو عمر : هذا قول أحمد بن حنبل ، قال : لا تكون القسامة إلا على رجل واحد .

38469 - وهو يرى القود بالقسامة ، كما يرى مالك .

38470 - وقال المغيرة المخزومي : يقسم على الجماعة في العمد ، ويقتلون بالقسامة ، كما يقتلون بالشهادة القاطعة .

38471 - قال المغيرة : وكذلك كان في الزمن الأول ، إلى زمن معاوية .

38472 - ولأشهب ، وسحنون في هذا المعنى ، ما قد ذكرنا في كتاب اختلافهم .

38473 - وأما الشافعي ، والكوفيون ، فلا قود عندهم في القسامة ، وإنما تستحق بها الدية ، ويقسم عند الشافعي على الواحد ، وعلى الجماعة ، وتستحق الدية على الواحد في ماله في العمد ، وعلى الجماعة في أموالهم .

38474 - وأما عند الكوفيين ، فيحلف أهل المحلة ، ويغرمون ، وقالوا في الشهادة على القتل ، إنهم إذا شهدوا أنه ضربه بسيف ، فلم يزل صاحب فراش حتى مات ، فعليه القصاص ، وإن لم يقولوا : مات منها .

38475 - وروى الربيع ، عن الشافعي ، مثل ذلك سواء .

38476 - وروى المزني عنه أنه لا يجعل قاتلا له حتى يقولوا : إنه إذ ضربه نهر [ ص: 336 ] دمه ، ورأينا دمه سائلا ، وإلا لم يكن قاتلا ، ولا جارحا .

38477 - ولا يكلف الشافعي ، ولا الكوفيون الشهود أن يقولوا : مات منها .

38478 - وأما القسامة ، فلا قسامة عندهم في غير ما شرطوه ، وذهبوا إليه ، على ما قد ذكرناه عنهم فيما مضى من هذا الكتاب .

38479 - ومالك ، والليث يقولان : إذا شهد ولي أنه ضربه ، فبقي بعد الضرب مغمورا ، لم يأكل ولم يشرب ، ولم يتكلم ، ولم يفق حتى مات ، قتل به ، وإن أكل أو شرب وعاش ، ثم مات ، ففيه القسامة ، ويحلف المقسمون أنه مات من ذلك الضرب .

التالي السابق


الخدمات العلمية