الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1636 [ ص: 9 ] ( 1 ) باب الدعاء للمدينة وأهلها

1635 - مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري ، عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " اللهم بارك في مكيالهم ، وبارك لهم في صاعهم ومدهم " يعني أهل المدينة .

1636 - مالك ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أنه قال : كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا أخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " اللهم بارك لنا في ثمرنا ، وبارك لنا في مدينتنا ، وبارك لنا في صاعنا ، وبارك لنا في مدنا اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك ، وإني عبدك ونبيك ، وإنه دعاك بمكة ، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة ومثله معه " ثم يدعو أصغر وليد يراه فيعطيه ذلك الثمر .


38501 - قال أبو عمر : أما دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس بالبركة [ ص: 10 ] لأهل المدينة في مكيالهم وصاعهم ومدهم ، فالمعنى فيه - والله عز وجل أعلم - صرف الدعاء بالبركة إلى ما يكال بالمكيال والصاع والمد من كل ما يكال ، وهذا من فصيح كلام العرب ، وأن يسمى الشيء باسم ما قرب منه ، ولو لم تكن البركة في كل ما يكال ، وكانت في المكيال لم تكن في ذلك منفعة ولا فائدة ، بل لو رفعت البركة من المكال ، فكانت في المكيال كانت مصيبة ، وهذا محال في معنى الحديث ، وقد جل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو بما لا فائدة فيه .

38502 - وفيه دليل على أن الإنفاق بالكيل أفضل منه بغير الكيل .

38503 - وقد روي مرفوعا : " كيلوا طعامكم ، يبارك لكم فيه " والفائدة في حديث أنس الدعاء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبركة لأهل المدينة في طعامهم والندب إلى استعمال الكيل في كل ما يكال ، ويمكن فيه الكيل ويوزن .

38504 - وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " المكيال مكيال أهل المدينة ، والوزن وزن أهل مكة " .

38505 - وأما حديث أبي هريرة ، ففيه من المعاني اختصاص الرئيس في [ ص: 11 ] الخير والدين والعلم والسلطان بالهدية والطرفة رجاء دعائه بالبركة ، وبرا به ، وإكراما له ، وتبركا بدعوته .

38506 - وأما دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة فمجاب كله إن شاء الله عز وجل .

وإذا كانت الإجابة موجودة لغيره ، فما ظنك به - صلى الله عليه وسلم - .

38507 - وقد يحتمل أن يكون قوله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم بارك لنا " يريد نفسه وأصحابه الذين آمنوا به ، وصدقوه ، واتبعوه على دينه ، في زمانه ، وتدرك بركة تلك الدعوة في قوله : " اللهم بارك لنا " كل من كان حيا ، مولودا في مدته وكل من آمن به واتبعه من ساكني المدينة ، إن شاء الله - عز وجل - .

38508 - ومعلوم أنه لم يرد بدعائه طعام المنافقين ، ولم يدخله في دعوته تلك لأنه لم يقصدهم بذلك .

38509 - وقد ظن قوم أن هذا الحديث يدل على أن المدينة أفضل من مكة بدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها بمثل ما دعا به إبراهيم لمكة ومثله معه ، وليس كما ظنوا لأن دعاء إبراهيم لمكة لم تعرف فضيلة مكة به وحده ، بل كان فضلها قبل أن يدعو لها .

38510 - ودعاء إبراهيم - عليه السلام - قد علمناه بما نطق به القرآن في [ ص: 12 ] قوله - عز وجل - " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر " الآية [ البقرة : 126 ] .

38511 - وقد كانت مكة حرما آمنا بدليل حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تعالى حرم مكة ولم يحرمها الناس " وقوله - عليه السلام - : " إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض " .

38512 - وأجمع المسلمون على القول بأن مكة حرم الله ، وقالوا في المدينة : حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

38513 - وقد دعا إبراهيم لمكة بنحو دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمدينة .

38514 - حدثني أحمد بن عبد الله قال : حدثني الحسن بن إسماعيل قال : حدثني عبد الملك بن بحر قال : حدثني محمد بن إسماعيل قال : حدثني سنيد قال : حدثني إسماعيل ابن علية ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في الحديث الطويل حين نزل إبراهيم بابنه إسماعيل وأمه هاجر مكة ، ثم رجع إلى الشام ، ثم عاد إليها بعد مدة وقد ماتت أم إسماعيل ، وتزوج إسماعيل في جرهم ، فوجد امرأته في المرة الثانية ، ولم يجد إسماعيل ، فسألها [ ص: 13 ] عنه ، فقالت : مر إلى الصيد ، فقال : وما طعامكم ؟ قالت : اللحم والماء . فقال : اللهم بارك لهم في لحمهم ومائهم . قالها ثلاثا .

38515 - وحدثني محمد بن عبد الله بن حكم قال : حدثني محمد بن معاوية قال : حدثني إسحاق بن أبي حسان قال : حدثني هشام بن عمار قال : حدثني حاتم بن إسماعيل قال : حدثني حميد ، عن عمار الدهني ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله - عز وجل - : " رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر " [ البقرة : 126 ] قال : كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون غيرهم ، فقال الله - عز وجل - : " ومن كفر " أيضا ، فإني أرزقه كما أرزق المؤمنين ، أأخلق خلقا لا أرزقهم ؟ أمتعهم قليلا ، ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير ، ثم قرأ ابن عباس " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا " [ الإسراء : 20 ] .

38516 - ذكر الفريابي قال : حدثني قيس بن الربيع ، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، في قوله - عز وجل - : " وارزق أهله من الثمرات " . قالا : سأل الرزق لمن آمن .

38517 - قال أبو عمر : ولو كان الدعاء للمدينة بالبركة دليلا على [ ص: 14 ] فضلها على مكة ، لكانت الشام واليمن أفضل من مكة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا بالبركة لأهلها ، ولم يذكر في ذلك الحديث مكة ، وهذا لا يقوله مسلم .

38518 - أخبرنا عبد الوارث قال : حدثني قاسم قال : حدثني الخشني قال : حدثني محمد بن المثنى قال : حدثني حسين بن الحسن ، عن ابن عوف ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

38519 - وذكره البخاري قال : حدثني علي ابن المديني قال : حدثني أزهر بن سعد السمان ، عن ابن عون ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لم يرفعه في كتاب البخاري أنه قال : " اللهم بارك لنا في شامنا ، اللهم بارك لنا في يمننا " قالوا : يا رسول الله ، وفي نجدنا ، فأظنه قال في الثالثة : " هناك الزلازل والفتن ، وبها يطلع قرن الشيطان " لفظ البخاري .

38520 - وليس في حديث ابن المثنى : " فأظنه قال في الثالثة : فقال في نجدنا قال : هنالك الزلازل . . إلخ " .

38521 - قال أبو عمر وفي هذا الحديث علم من أعلام نبوته [ ص: 15 ] - صلى الله عليه وسلم - لإخباره عن الشام وهي يومئذ دار كفر ، وكان كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

38522 - ومثل هذا حديث ابن عمر في المواقيت ، وقت لأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرنا .

35823 - ومما يدل على فضل مكة على غيرها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - . " بني الإسلام على خمس . . " فذكر منها حج البيت الحرام .

38524 - وقال - صلى الله عليه وسلم - : " الإلحاد فيه من الكبائر " .

38525 - وجعل الله الكعبة البيت الحرام قبلة للمسلمين في صلاتهم .

38526 - وقال - صلى الله عليه وسلم - : " قبلتكم أحياء وأمواتا " .

38527 - ورضي الله - عز وجل - من عباده بحط أوزارهم بأن يقصد القاصد البيت الحرام حاجا مرة في دهره .

38528 - وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدثني [ ص: 16 ] أبي قال : حدثني أبو اليمان قال : أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عبد الله بن عدي بن الخيار الزهري أخبره أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يقول وهو واقف بالحزورة في سوق مكة ، يقول : " والله إنك لخير أرض الله - عز وجل - ، وأحب أرض الله - عز وجل - إلى الله - عز وجل - ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت " .

38529 - وهكذا رواه صالح بن كيسان ، ويونس بن يزيد ، وعقيل بن خالد ، وعبد الرحمن بن خالد بن يزيد ، وعقيل بن خالد ، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، كلهم عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عدي بن الخيار ، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

38530 - وهو حديث لا يختلف أهل العلم بالحديث في صحته .

38531 - وأما ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حين خروجه من مكة إلى المدينة : " اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إلي ، فأسكني أحب البلاد إليك " .

[ ص: 17 ] 38532 - وهو حديث موضوع منكر ، لا يختلف أهل العلم في نكارته وضعفه ، وأنه موضوع وينسبون وضعه إلى محمد بن الحسن بن زبالة المدني ، وحملوا عليه فيه ، وتركوه .

38533 - وأخبرنا عبد الرحمن بن يحيى قال : حدثني علي بن مسرور قال : حدثني أحمد بن داود قال : حدثني سحنون بن سعيد قال : حدثني عبد الله بن وهب قال : حدثني مالك بن أنس أن آدم لما أهبط إلى الأرض بالهند قال : يا رب هذه أحب الأرض إليك أن تعبد فيها ؟ قال : بل مكة ، فسار آدم حتى أتى مكة ، فوجد عندها ملائكة يطوفون بالبيت ، ويعبدون الله - عز وجل - ، فقالوا : مرحبا يا آدم يا أبا البشر ، إنا ننتظرك هاهنا منذ ألفي سنة .

38534 - فهذه حكاية مالك - رحمه الله - وقوله وخبره عن مكة .

38535 - وفي حديث هذا الباب من الآداب وجميل الأخلاق ، وإعطاء الصغير من الولدان التحفة والطرفة وما يسر به ويعجبه ، وينفعه ، وأنه أولى بذلك من الكبير لقلة صبره ، وشدة فرحه باليسير منه .

38536 - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب الأطفال ويلاطفهم ويعجبه أن يسرهم ، وفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة .

[ ص: 18 ] 38537 - حدثني عبد الوارث قال : حدثني قاسم قال : حدثني أبو قلابة قال : حدثني أبو ربيعة قال : حدثني جرير بن حازم ، عن يونس بن يزيد ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتي بالباكورة ، دفعها إلى أصغر من يحضره من الولدان .

38538 - أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثني قاسم بن أصبغ قال : حدثني محمد بن عبد السلام الخشني قال : حدثني محمد بن بشار بندار قال : حدثني سعيد بن عامر قال : حدثني شعبة ، عن قتادة ، عن أنس قال : إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلاطفنا حتى أن كان ليقول لأخ لي صغير : " يا أبا عمير ، ما فعل النغير " .

التالي السابق


الخدمات العلمية