الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1639 1638 - مالك ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله أن أعرابيا بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام ، فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله أقلني بيعتي فأبى ، فخرج الأعرابي . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها " .


38543 - قال أبو عمر : هذا الأعرابي كانت لبيعته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على [ ص: 21 ] الإسلام والهجرة لوطنه ، والمقام معه ، وهذا نوع من البيعات التي كان يأخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس .

38544 - وقد ذكرنا وجوهها وشواهدها في " التمهيد " في باب محمد بن المنكدر ، وكان على الناس في ذلك الوقت فرضا إذا أسلموا أن ينتقلوا إلى المدينة ، إذ لم يكن للإسلام في ذلك الوقت دار غيرها ، ويقيم معهم ، لصرفهم فيما يحتاج إليه من غزو الكفار ، وحفظ المدينة ممن أرادها منهم ، ولإرسال من احتاج إلى إرساله في الدعاء إلى الإسلام ، وغير ذلك مما هو معلوم من سيرته - صلى الله عليه وسلم - ، حتى فتح الله - عز وجل - عليه مكة .

38545 - وكان بقاء من بقي في دار الكفر مسلما حراما عليه إذا قدر على الهجرة ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنا بريء من كل مسلم مقيم في دار الشرك " .

38546 - وكذلك كان عليهم حراما رجوعهم من هجرتهم إلى أعرابيتهم ، ألا ترى إلى حديث ابن مسعود قال : " آكل الربا وموكله ، وكاتبه ، وشاهداه ، إذا علموا به ، والواشمة والمستوشمة للحسن ، ولاوي الصدقة ، والمرتد أعرابيا بعد هجرته - ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 22 ] 38547 - وهذا الأعرابي كان ممن بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المقام بالمدينة ، فلما لحقه من الوعك ، أراد الخروج عنها إلى وطنه ، ولم يكن - والله أعلم - ممن رسخ الإيمان في قلبه ، بل كان من الأعراب الذين قال الله - عز وجل - أنهم أجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله .

38548 - وقد أوضحنا هذا المعنى في " التمهيد " والحمد لله .

38549 - وأما قوله - عليه السلام - : " إن المدينة كالكير تنفي خبثها " . فلا خبث أكثر دناءة ممن رغب بنفسه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعن صحبته .

38550 - وأما قوله - عليه السلام - : " وينصع طيبها " . فالناصع : السالم الخالص الباقي على النار والنقي الطيب من الحديد .

38551 - قال النابغة الذبياني : [ ص: 23 ]

أتاك بقول هلهل النسخ كاذب ولم يأت بالحق الذي هو ناصع

.

38552 - وقد ذكرنا في " التمهيد " حديث مجاشع بن مسعود قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبايعه على الهجرة ، فقال - عليه السلام - : " قد مضت الهجرة لأهلها ، ولكن على الإسلام والجهاد والخير " .

38553 - وحديث يعلى بن أمية قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي يوم [ ص: 24 ] الفتح ، فقلت : يا رسول الله ، بايع أبي على الهجرة . فقال : " أبايعه على الجهاد ، وقد انقطعت الهجرة " .

38554 - وقال - عليه السلام - : " لا هجرة بعد الفتح ، وإنما هو جهاد ونية " .

التالي السابق


الخدمات العلمية