الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1645 [ ص: 33 ] ( 3 ) باب ما جاء في تحريم المدينة

1644 - مالك ، عن عمرو مولى المطلب ، عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلع له أحد . فقال : " هذا جبل يحبنا ونحبه ، اللهم إن إبراهيم حرم مكة ، وأنا أحرم ما بين لابتيها " .


38588 - هكذا روى مالك هذا الحديث مختصرا .

38589 - ورواه إسماعيل بن جعفر فذكر فيه معاني ، ولم يذكرها مالك ، ذكره سنيد قال : حدثني إسماعيل بن جعفر ، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن حنطب ، أنه سمع أنس بن مالك ، يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة : " التمس لنا غلاما من غلمانكم يخدمني " . فخرج أبو طلحة يردفني وراءه ، فكنت أخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما نزل ، فكنت أسمعه يكثر أن يقول : " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، والعجز والكسل ، والجبن والبخل ، وضلع الدين ، وغلبة الرجال " . فلم أزل أخدمه حتى أقبلنا من خيبر ، وأقبل بصفية بنت حيي ، قد جاءوا بها وأردفها خلفه وراءه على كسائها حتى إذا كنا بالصهباء صنع حيسا في نطع ، ثم أرسلني فدعوت رجالا فأكلوا وكان ذلك بناؤه بها . ثم أقبل حتى إذا بدا [ ص: 34 ] له أحد قال : " هذا جبل يحبنا ونحبه " ، فلما أشرف على المدينة قال : " اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة ، اللهم بارك لهم في صاعهم ومدهم " .

38590 - قال أبو عمر : أما قوله - صلى الله عليه وسلم - ، في أحد : " جبل يحبنا ونحبه " فأكثر العلماء يحملونه على المجاز ، والمعنى عندهم في ذلك كالمعنى في قول الله تعالى : " واسأل القرية " [ يوسف : 82 ] ، يعني : واسأل أهل القرية ، فكذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحد : هذا جبل يحبنا ونحبه " ، يعني الأنصار الساكنين قربه ، وكانوا يحبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويحبهم لأنهم آووه ونصروه وأعانوه على إقامة دينه - صلى الله عليه وسلم - .

38591 - وقد قيل في المجاز أيضا وجه آخر ، وذلك أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يفرح بأحد إذا طلع له استبشارا بالمدينة ومن فيها من أهله وذريته ، ويحب النظر إليهم ويبتهج للأوبة من سفره والنزول على أهله وأحبته .

38592 - وقوله : " يحبنا " . أي : لو كان ممن يصح منه الحب لأحبنا كما نحبه .

38593 - وقد زدنا هذا المعنى بيانا بشواهد في " التمهيد " .

[ ص: 35 ] 38594 - وقد قيل : إن محبته حقيقية ، كما يسبح كل شيء حقيقة ، ولكن لا يفهم ذلك الناس ، وغير نكير أن يصنع الله محبة رسوله في الجماد وفيما لا يعقل كعقل الآدميين ، كما وضع الله خشيته في الحجارة ، فأخبر في محكم كتابه بأن منها ما يهبط من خشية الله ، وكما وضع في الجذع محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى حن إليه حنين الناقة لولدها .

38595 - رواه أنس وجابر وغيره .

38596 - وقد ذكرناه من طرق في غير هذا الموضع ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب إلى جذع ، فلما صنع له المنبر ، وخطب عليه ، حن الجذع حنين الناقة إليه ، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحتضنه فسكن .

38597 - ومثل هذا كثير قال الله - عز وجل - : " وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " [ الإسراء : 44 ] .

38598 - وأما قوله : " إن إبراهيم حرم " فقد روي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة ، وحديث جابر ، وحديث رافع بن خديج وحديث سعد بن أبي وقاص ، كما روي من حديث أنس .

38599 - وقد ذكرناها بالأسانيد في " التمهيد " .

386600 - وروى ابن عباس ، وأبو شريح الكعبي الخزاعي ، وأبو هريرة ، أن [ ص: 36 ] الله حرم مكة ، ولم يحرمها الناس .

38601 - حدثني عبد الوارث قال : حدثني قاسم قال : حدثني أحمد بن زهير قال : حدثني أبي قال حدثني وهب بن جرير قال : حدثني أبي قال : سمعت يونس بن يزيد عن الزهري ، عن مسلم بن يزيد أحد بني سعد بن بكر أنه سمع أبا شريح بن عمرو الخزاعي ثم الكعبي يقول : فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قام فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : " أما بعد فإن الله حرم مكة ، لم يحرمها الناس ، وإنما أحلها لي ساعة من النهار أمس ، وأنها اليوم حرام ، كما حرمها أول مرة " .

38602 - وحدثني عبد الوارث قال : حدثني قاسم قال : حدثني أحمد بن زهير قال : حدثني أبي قال حدثني جرير ، عن منصور ، عن مجاهد عن طاوس ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها ، ولا يختلى خلاؤه " فقال العباس : إلا الإذخر ، فإنه لقبورهم وبيوتهم ، فقال : إلا الإذخر " .

[ ص: 37 ] 38603 - قال أبو عمر : هذا هو الصحيح والحقيقة ، لا المجاز ويشهد لذلك قول الله - عز وجل - : " إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها " [ النمل : 91 ] .

38604 - وقد روي أنه حرمها على لسان إبراهيم ، وليس بالقوي .

38605 - وقال حدثني عبد الوارث قال : حدثني قاسم قال حدثني أحمد بن زهير قال : حدثني مصعب بن عبد الله قال : حدثني عبد العزيز بن أبي حازم ، عن العلاء بن عبد الرحمن عن مسلم بن السائب ، عن عبد الرحمن مولى فكيهة قال : قال أبو هريرة : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن إبراهيم خليلك ونبيك ، وإنك حرمت مكة على لسان إبراهيم " .

. 38606 - وأما قوله : " وإني أحرم ما بين لابتيها " .

[ ص: 38 ] يعني المدينة فقد رواه أبو هريرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية