الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1655 [ ص: 68 ] ( 7 ) باب ما جاء في الطاعون

1656 - مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام ، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه ، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام قال ابن عباس ، فقال عمر بن الخطاب : ادع لي [ ص: 69 ] المهاجرين الأولين ، فدعاهم فاستشارهم ، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام ، فاختلفوا ، فقال بعضهم : قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه ، وقال بعضهم : معك بقية الناس وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء ، فقال عمر : ارتفعوا عني ، ثم قال : ادع لي الأنصار فدعوتهم فاستشارهم ، فسلكوا سبيل المهاجرين ، واختلفوا كاختلافهم ، فقال : ارتفعوا عني ، ثم قال : ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش ، من مهاجرة الفتح ، فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم اثنان ، فقالوا : نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء ، فنادى عمر في الناس : إني مصبح على ظهر ، فأصبحوا عليه ، فقال أبو عبيدة ، أفرارا من قدر الله ؟ فقال عمر : أو غيرك قالها يا أبا عبيدة ؟ نعم ، نفر من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان ، إحداهما مخصبة والأخرى جدبة ، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله : ؟ وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ؟ فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائبا في بعض حاجته ، فقال : إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه : وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه " قال فحمد الله عمر ، ثم انصرف .


[ ص: 70 ] 38725 - قال أبو عمر : قد ذكرنا في " التمهيد " ما يستدل به من ألفاظ هذا الحديث ، وما يمكن استنباطه منها ، ونذكر هاهنا ما في ظاهره الذي سبق وذكر .

38726 - وأما اختلاف المهاجرين والأنصار في القدوم على الوباء فلكل واحد منهم معنى صحيح في أصول السنن المجتمع عليها من الكتاب والسنة ، وملاك ذلك كله الإيمان بالقدر ، وأن ما أصاب المرء لم يكن ليخطئه ، مع إباحة الأخذ بالحذر والحزم والفرار عن المهلكة الظاهرة .

38727 - وقد أحكمت السنة ، والحمد لله كثيرا ما قطع وجوه الاختلاف فلا يجوز لأحد أن يقدم على موضع طاعون لم يكن ساكنا فيه ، ولا يجوز له الفرار عنه إذا كان قد نزل في وطنه وموضع سكناه .

38728 - وقد ذكرنا في " التمهيد " خبرا عن الزهري قال : أصاب الناس طاعون بالجابية ، فقال عمرو بن العاص تفرقوا عنه ، فإنما هو بمنزلة نار ، فقام معاذ بن جبل ، فقال : لقد كنت فينا وأنت أضل من حمار أهلك سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " هو رحمة لهذه الأمة ، اللهم فاذكر معاذا في من تذكره في هذه الرحمة .

[ ص: 71 ] 38729 - قال أبو عمر : مات معاذ في طاعون عمواس بالشام سنة ثماني عشرة .

38730 - وروى شعبة ، عن يزيد بن جبير قال : سمعت شرحبيل بن حسنة يحدث أن عمرو بن العاص قال : وقد وقع الطاعون بالشام : إنه رجس ، فتفرقوا عنه . فقال شرحبيل : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إنها رحمة ربكم ، ودعوة نبيكم ، وموت الصالحين قبلكم ، فلا تفرقوا عنه " .

38731 - قال أبو عمر : أظن قوله : " ودعوة نبيكم " قوله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم اجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون " . وقد ذكرنا هذا الخبر من حديث عائشة في كتاب الجنائز ، عند قوله - صلى الله عليه وسلم - : " والمطعون شهيد " .

38732 - وقالت عائشة : يا رسول الله ، الطعن قد عرفنا فما الطاعون ؟ قال : " غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط " .

38733 - قال أبو عمر : وقد تخرج في الأيدي والأصابع ، وحيث شاء الله من البدن .

38734 - وروينا أن زيادا كتب إلى معاوية : " إني قد ضبطت العراق بيميني ، وشمالي فارغة " ، فأخبر بذلك ابن عمر ، فقال : مروا العجائز يدعون الله عليه ، [ ص: 72 ] ففعلن ، فخرج بأصبعه طاعون ، فمات منه .

38735 - وروي من حديث جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " الفار من الطاعون ، كالفار من الزحف ، والصابر فيه كالصابر في الزحف " .

38736 - وروينا عن ابن مسعود ، أنه قال : الطاعون فتنة على المقيم وعلى الفار أما الفار فيقول : فررت فنجوت . وأما المقيم فيقول : أقمت فمت وإنما فر من لم يجئ أجله ، وقام فمات من جاء أجله .

38737 - وروينا عن عمر من وجوه قد ذكرناها في " التمهيد " ، أنه ندم على انصرافه عن الطاعون لأنه قد كان نزل بالشام ودخلها يومئذ .

38738 - وروى هشام بن سعد ، عن عروة بن رويم ، عن قاسم ، عن عبد الله بن عمرو قال : جئت عمر حين قدم من الشام ، فسمعته يقول : اللهم اغفر لي رجوعي من سرغ ، يعني حين رجع من أجل الوباء .

38739 - قال عروة بن رويم : وبلغنا أنه كتب إلى عامله بالشام : إذا سمعت بالطاعون قد وقع عندكم ، فاكتب إلي أخرج إليه .

38740 - وقال خليفة بن خياط : وفي سنة سبع عشرة خرج عمر بن الخطاب إلى الشام ، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت ، وانصرف من سرغ وبها الطاعون .

38741 - وقال ضمرة ، عن ابن شوذب ، عن أبي التياح يزيد بن حميد [ ص: 73 ] الضبعي قال : قلت لمطرف بن الشخير : " ما تقول - رحمك الله - في الفرار من الطاعون ؟ قال : هو القدر تخافونه ، وليس منه بد .

38742 - وقد ذكرنا أخبار هذا الباب كلها بالأسانيد في " التمهيد " ، وأخبارا غيرها في معناها ، والحمد لله كثيرا منها حديث سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله - عز وجل - : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " [ البقرة : 243 ] . قال : كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون ، فماتوا ، فدعا الله نبيا من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه ، فأحياهم الله ( عز وجل ) .

38743 - وقال عمرو بن دينار في هذه الآية : وقع الطاعون في قريتهم ، فخرج أناس ، وبقي أناس ، فمن خرج أكثر ممن بقي ، فنجا الذين خرجوا ، وهلك الذين أقاموا ، فلما كانت الثانية ، خرجوا بأجمعهم إلا قليلا ، فأماتهم الله ، ودوابهم ثم أحياهم ، فرجعوا إلى بلادهم وقد توالدت ذريتهم .

38744 - وقال المدائني : يقال : إنه ما فر أحد من الطاعون فسلم من الموت .

38745 - قال : وهرب عمرو بن عبيد ، ورباط بن محمد بن رباط من الطاعون ، فقال إبراهيم بن علي القعنبي :

[ ص: 74 ]

ولما استفز الموت كل مكذب صبرت ولم يصبر رباط ولا عمرو

.

38746 - وقد أحسن أبو العتاهية في قوله :


كل يوافي به القضاء إلى     الموت ويوفيه رزقه كملا
كل فقد أمهله أمل     يلهي ولكن خلفه الأجلا
يا بؤس للغافل المطيع عن     أي عظيم من أمره غفلا

.

التالي السابق


الخدمات العلمية