الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1660 [ ص: 80 ] [ ص: 81 ] 46 - كتاب القدر [ ص: 82 ] [ ص: 83 ] بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

( 1 ) باب النهي عن القول بالقدر

1661 - مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " تحاج آدم وموسى ، فحج آدم موسى قال له موسى : أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء ، واصطفاه على الناس برسالته ؟ قال : نعم قال : أفتلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق ؟ " .


38770 - قال أبو عمر : إلى هنا انتهى حديث مالك ، ورواه ابن عيينة ، عن أبي الزناد بإسناده ، وزاد فيه : قبل أن أخلق بأربعين سنة .

38771 - وكذلك قال طاوس ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث .

38772 - وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة من طرق شتى منها حديث [ ص: 84 ] محمد بن عمر ، ويحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة .

38773 - ورواه ابن شهاب ، فاختلف عليه فيه فمن أصحابه من جعل فيه عنه ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة .

38774 - ومنهم من رواه عنه عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة .

38775 - ومنهم من يرويه عنه عن سعيد بن المسيب ، ورواه معمر ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، وكلهم رفعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

38776 - وقد روي من حديث عمر بن الخطاب ، وهو حسن صحيح الألفاظ والسياقة ، ورواه ابن وهب قال : أخبرني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن موسى عليه السلام قال : يا رب أرني أبانا آدم الذي أخرجنا من الجنة ، فأراه الله آدم ، فقال له : أنت آدم ؟ قال : نعم . قال : أنت الذي نفخ الله فيك من روحه ، وعلمك الأسماء كلها ، وأمر ملائكته فسجدوا لك ؟ قال : نعم . قال : فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ قال له آدم : من أنت ؟ قال : أنا موسى . قال : أنت نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء حجاب ، ولم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه ؟ قال : نعم . قال : فما وجدت في كتاب الله الذي أنزل عليك ، أن ذلك في [ ص: 85 ] كتاب الله قبل أن أخلق ؟ قال : نعم . قال : أفتلومني في شيء سبق من الله فيه القضاء قبل ؟ قال عند ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فحج آدم موسى " .

38777 - قال أبو عمر : هذا الحديث عند جماعة أهل العلم بالحديث صحيح من جهة الإسناد ، وكلهم يرويه ويقر بصحته ، ويحتج به أهل الحديث والفقه ، وهم أهل السنة في إثبات قدم علم الله ( عز وجل ذكره ) .

38778 - وسواء منهم من قال : خبر الواحد يوجب دون العلم ، ومن قال : العمل والعلم كلهم يحتج به فيما ذكرنا لأنه خبر جاء مجيئا متواترا ، فاشيا .

38779 - وأما أهل البدع ، فينكرونه ويدفعونه ، ويعترضون فيه بدروب من القول ، كرهت ذكر ذلك لأن كتابنا هذا كتاب سنة واتباع ، لا كتاب جدال وابتداع .

38780 - وفي هذا الحديث دليل على أن الله - عز وجل - قد سبق في علمه ما يكون ، وأنه في كتاب مسطور ، جرى القلم فيه بما يكون إلى آخر الأبد ، وأن العباد لا يعملون إلا فيما قد علمه الله - عز وجل - وقضى به ، وقدره .

38781 - وقد روينا أن سلمان الفارسي سئل عن الإيمان بالقدر ؟ فقال : إذا علم الرجل من قبل نفسه أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، فذلك الإيمان بالقدر .

[ ص: 86 ] 38782 - فروى حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب عن يعلى بن مرة ، أن أصحاب علي ( رضي الله عنه ) قالوا : إن هذا الرجل في حرب ، وإلى جنب عدو وإنا لا نأمن أن يغتال ، فليحرسه منا كل ليلة عشرة ، وكان علي إذا صلى العشاء ، لصق بقبلة المسجد ، فيصلي ما شاء الله - عز وجل - أن يصلي ، ثم ينصرف إلى أهله ، فصلى ذات ليلة ، ثم انصرف فرآهم ، فقال : ما أجلسكم هنا هذه الساعة ، فقالوا : أجلسنا نتحدث ، فقال : لتخبرني . فأخبروه : فقال : أمن أهل الأرض تحرسوني أم من أهل السماء ؟ فقالوا : نحن أهون على الله - عز وجل - من أن نحرسك من أهل السماء ، ولكن نحرسك من أهل الأرض . قال : فلا تفعلوا ، فإنه إذا قضي الأمر من السماء ، علمه أهل الأرض ، وإن العبد لا يجد طعم الإيمان حتى يوقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه .

38783 - وروينا أن الناس لما خاضوا في القدر بالبصرة ، اجتمع مسلم بن يسار ، ورفيع أبو العالية ، فقال أحدهما لصاحبه : تعال ننظر فيما خاض الناس فيه من هذا الأمر ، فقعدا ، ونظرا ، فاتفق رأيهما أنه يكفي المؤمن من هذا الأمر أن يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له ، وأنه مجزي بعمله .

38784 - وروينا عن روح بن عبادة ، عن حبيب بن الشهيد ، عن محمد بن سيرين قال : ما ينكر هؤلاء أن يكون الله - عز وجل - علم علما ، فجعله كتابا .

[ ص: 87 ] 38785 - أخبرنا خلف بن قاسم قال : أخبرنا الحسن بن رشيق قال : حدثني محمد بن يحيى الفارسي قال : سمعت الربيع بن سليمان يقول : انحدر علينا الشافعي يوما من درجته ، وقوم يتجادلون في القدر ، فقال لهم : إما أن تقوموا عنا ، وإما أن تجاورونا بخير ، ثم قال : لأن يلق الله - عز وجل - العبد بكل ذنب ما خلا الشرك ، خير له من أن يلقاه بشيء من هذه الأهواء .

38786 - قال : وسمعت الربيع يقول : قال الشافعي : قال الله - عز وجل - في كتابه العزيز : " وما تشاءون إلا أن يشاء الله " [ الإنسان : 30 ] فأعلم الله - عز وجل - خلقه أن المشيئة له دون خلقه ، وأن لا مشيئة لهم إلا أن يشاء الله عز وجل .

38787 - قال الربيع : قال لي الشافعي : لا تصل خلف القدري ، وإني أكره الصلاة خلفه .

38788 - وحدثني عبد الوارث قال : حدثني قاسم بن أصبغ قال : حدثني أحمد بن زهير قال : حدثني سليمان بن أبي شيخ قال : حدثني عيينة بن المنهال قال : قال بلال بن أبي بردة لمحمد بن واسع : ما تقول في القضاء والقدر ؟ قال : أيها الأمير ، إن الله تبارك وتعالى لا يسأل عباده يوم القيامة عن قضائه وقدره ، وإنما يسألهم عن أعمالهم .

38789 - وروينا أن عمر بن عبد العزيز ، كتب إلى الحسن البصري : إن الله لا يطالب خلقه بما قضى عليهم ، ولكن يطالبهم بما نهاهم عنه وأمرهم به ، فطالب [ ص: 88 ] نفسك من حيث يطالبك ربك .

38790 - وأما قوله في الحديث عن آدم - عليه السلام - : " أفتلومني على أمر قد قدر علي " ، فهو خصوص لآدم - عليه السلام - لأن ذلك إنما كان منه ومن موسى عليهما السلام ، بعد أن ثبت على آدم ، وبعد أن تلقى من ربه كلمات ، فتاب عليه من ذنبه في أكل الشجرة .

38791 - وقد أجمع العلماء على أنه غير جائز لأحد أن يجعله حجة إذا أتى ما نهاه الله عنه ، وحرمه عليه ، أن يحتج بمثل هذا فيقول : أتلومني على أن قتلت ، وقد سبق في علم الله أن أقتل ، وتلومني في أن أسرق ، أو أزني ، أو أظلم ، أو أجور ، وقد سبق ذلك علي في علم الله تعالى وقدره .

38792 - وهذا ما لا يسوغ لأحد أن يجعله حجة لنفسه .

38793 - والأمة مجتمعة على أنه جائز لوم من أتى ما يلام عليه من معاصي ، وذمه على ذلك ، كما أنهم مجمعون على حمد من أطاع ربه ، وأتى من الأمور المحمودة ما يحمد عليه .

38794 - وقد روى ابن وهب ، عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، أنه قال : إنما كان ذلك من آدم لموسى بعد أن تيب على آدم .

38795 - قال أبو عمر : التقاء آدم وموسى يمكن أن يكون كما قال ابن وهب يمكن أن يريه الله إياه وهو حي ، ويمكن أن يكونا التقت أرواحهما ، وعلم ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يعلم به خبر السماء في غير ذلك .

[ ص: 89 ] 38796 - وهذا ومثله مما لا يطاق فيه التكييف ، وإنما فيه التصديق والتسليم وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية