الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
227 [ ص: 5 ] كتاب الجمعة [ ص: 6 ] [ ص: 7 ] باب العمل في غسل يوم الجمعة

197 - مالك ، عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى [ ص: 8 ] فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر " .


[ ص: 9 ] 5637 - فيه الندب إلى الاغتسال يوم الجمعة ، والأحاديث في غسل الجمعة كثير جدا ، منها ما ظاهره الوجوب ، ومنها ما هو ندب ، وسنبين معنى ذلك كله في هذا الباب .

5638 - وأما ذكره فيه الساعات الخمس ، وأن الصلاة كانت في السادسة فإن أهل العلم مختلفون في تلك الساعات :

5639 - فقالت طائفة : أراد الساعات من طلوع الشمس وصفائها ، وهو أفضل البكور في ذلك الوقت إلى الجمعة ، وهو قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي ، وأكثر العلماء كلهم يستحب البكور إليها .

5640 - قال الشافعي : ولو بكر إليها بعد الفجر وقبل طلوع الشمس لكان [ ص: 10 ] حسنا .

5641 - وذكر الأثرم : قيل لأحمد بن حنبل : كان مالك يقول : لا ينبغي التهجير يوم الجمعة باكرا .

5642 - قال : هذا خلاف حديث النبي - عليه السلام .

5643 - وقال : سبحان الله ! إلى أي شيء ذهب في هذا والنبي - عليه السلام - يقول : " كالمهدي جزورا " .

5644 - وأما مالك فذكر يحيى بن عمر ، عن حرملة أنه سأل ابن وهب عن تفسير هذه الساعات : أهو الغدو من أول ساعات النهار ، أو إنما أراد بهذا القول ساعات الرواح ؟

5645 - فقال ابن وهب : سألت مالكا عن هذا فقال : أما الذي يقع في قلبي فإنه إنما أراد ساعة واحدة تكون فيها هذه الساعات : من راح في أول تلك الساعة أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة ، ولو لم يكن كذلك ما صليت الجمعة حتى يكون النهار تسع ساعات في وقت العصر ، أو قريبا من ذلك .

[ ص: 11 ] 5646 - وكان ابن حبيب ينكر قول مالك هذا ، ويميل إلى القول الأول .

5647 - وقال : قول مالك هذا تحريف في تأويل الحديث ، ومحال من وجوه .

5648 - قال : وذلك أنه لا تكون ساعات في ساعة واحدة .

5649 - قال : والشمس إنما تزول في الساعة السادسة من النهار ، وهو وقت الأذان ، وخروج الإمام إلى الخطبة ; فدل ذلك على أن الساعات المذكورات في هذا الحديث هي ساعات النهار المعروفات ، فبدأ بأول ساعات النهار فقال : من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ، ثم قال في الخامسة : بيضة ، ثم انقطع التهجير ، وحان وقت الأذان .

5650 - قال : فشرح الحديث بين في لفظه ، ولكنه حرف عن موضعه ، وشرح بالخلف من القول وما لا يتكون ، وزهد شارحه الناس فيما رغبهم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التهجير في أول النهار ، وزعم أن ذلك كله إنما يجتمع في ساعة واحدة قرب زوال الشمس .

5651 - قال : وقد جاءت الآثار بالتهجير إلى الجمعة في أول النهار ، وقد سقنا ذلك في موضعه من كتاب " واضح السنن " بما فيه بيان وكفاية .

5652 - هذا كله قول ابن حبيب .

5653 - قال أبو عمر : هذا كله تحامل منه على مالك ، فهو الذي [ ص: 12 ] قال القول الذي أنكره ، وجعله خلفا من القول ، وتحريفا من التأويل .

5654 - والذي قاله مالك تشهد له الآثار الصحاح من رواية الأئمة ، ويشهد له أيضا العمل بالمدينة عنده ، وهذا مما يصح فيه الاحتجاج بالعمل ; لأنه أمر متردد كل جمعة لا يخفى على عامة العلماء .

5655 - فمن الآثار التي يحتج بها مالك : ما رواه الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي - عليه السلام - قال : " إذا كان يوم الجمعة قام على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس : الأول فالأول ، فالمهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة ، ثم الذي يليه كالمهدي كبشا " حتى ذكر الدجاجة والبيضة . " فإذا جلس الإمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة " .

5656 - وقد ذكرنا الإسناد إلى الزهري في " التمهيد " من طرق جلبنا فيها الاختلاف عنه فيه ، وقد ذكرناه عن غيره أيضا من وجوه .

5657 - ألا ترى إلى ما في هذا الحديث أنه قال : " يكتبون الناس : الأول فالأول ، المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ، ثم الذي يليه " ، فجعل الأول مهجرا .

5658 - وهذه اللفظة إنما هي مأخوذة من الهاجرة والهجير ، وذلك وقت النهوض إلى الجمعة ، وليس ذلك عند طلوع الشمس ; لأن ذلك الوقت به هاجرة ولا هجير .

[ ص: 13 ] 5659 - وفي الحديث : " ثم الذي يليه ، ثم الذي يليه " ولم يذكر الساعات .

5660 - والطرق بذلك اللفظ كثيرة مذكورة في " التمهيد " ، وفي بعضها : " المتعجل إلى الجمعة كالمهدي بدنة " ، وفي أكثرها : " المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة " الحديث .

5661 - وفي بعضها ما يدل على أنه جعل الرائح إلى الجمعة في أول الساعة كالمهدي بدنة ، وفي آخرها كذلك ، وفي أول الساعة الثانية كالمهدي بقرة ، وفي آخرها كذلك .

5662 - وهذا كله مذكور في " التمهيد " والحمد لله .

5663 - وقال بعض أصحاب الشافعي : لم يرد النبي - عليه السلام - بالمهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة الناهض إليها في الهجير والهاجرة ، وإنما أراد بذلك التارك لأشغاله وأعماله من طلب الدنيا للنهوض إلى الجمعة كالمهدي بدنة ، وذلك مأخوذ من الهجرة ، وهي ترك الوطن والنهوض إلى الله ، ومنه سمي المهاجرون .

5664 - وقال الشافعي : أحب التبكير إلى الجمعة ، ولا تؤتى إلا مشيا .

5665 - وأما قوله في حديث مالك : " حضرت الملائكة يستمعون الذكر " [ ص: 14 ] فالذكر هنا : الخطبة ، وقد بين ذلك في حديث ابن المسيب عن أبي هريرة - قوله : " يستمعون الخطبة " .

5666 - وقد استدل الشافعي وأصحابه بحديث هذا الباب في تفضيل البدن على البقر ، والبقر على الضأن في الضحايا والهدايا .

5667 - وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء :

5668 - فقال مالك وأصحابه : أفضل الضحايا فحول الضأن ، وإناث الضأن أفضل من فحول المعز ، وفحول المعز أفضل من إناثها ، وإناث المعز أفضل من الإبل والبقر في الضحايا .

5669 - واحتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى : " وفديناه بذبح عظيم " ( سورة الصافات : 107 ) وذلك كبش لا جمل ولا بقرة .

5670 - وقال بعضهم : لو علم الله حيوانا أفضل من الكبش لفدى به إسحاق ، وضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين ، وأكثر ما ضحى بالكباش .

5671 - وذكر ابن أبي شيبة عن ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد قال : الذبح العظيم : الشاة .

[ ص: 15 ] 5672 - وقد روى الحنيني عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " نزل جبريل في يوم عيد فقلت : يا جبريل كيف ترى عيدنا ؟ فقال : يا محمد لقد تباهى به أهل السماء ، وقال : اعلم يا محمد أن الجذع من الضأن خير من المسن من المعز والبقر والإبل ، ولو علم الله ذبحا خيرا منه لفدى به إبراهيم ابنه " .

5673 - وهذا حديث لا أعلم له إسنادا غير هذا ، انفرد به الحنيني ، وليس ممن يحتج به .

5674 - قال أبو عمر : " الكبش أول قربان تقبله الله من أحد ابني آدم ، ثم فدى بمثله الذبيح ، وحسبك بهذا كله فضلا " .

[ ص: 16 ] 5675 - وقال الشافعي : الإبل أحب إلي أن يضحى بها من البقر ، والبقر أحب إلي من الغنم ، والضأن أحب إلي من المعز .

5676 - وقال أبو حنيفة وأصحابه : الجزور في الأضحية أفضل ما ضحي به ، ثم يتلوه البقر ، ثم يتلوه الشاء .

5677 - ومن حجة من ذهب إلى هذا حديث هذا الباب وما كان مثله في تقديم البدن في الفضل مما يتقرب به إلى الله قوله : " فكأنما قرب بدنة ، ثم بقرة ، ثم كبشا حتى الدجاجة والبيضة " وإجماعهم على أن أفضل الهدايا الإبل ، فكان هذا الإجماع يقضي على ما اختلفوا فيه من الضحايا لأنها نسكان : شريعة ، وقربان .

5678 - وقد قالوا أيضا : ما استيسر من الهدي : شاة ، فدل على نقصان ذلك عن مرتبة ما هو أعلى منه .

5679 - وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الرقاب ، فقال : " أغلاها ثمنا ، وأنفسها عند أهلها " .

5680 - ومعلوم أن الإبل أنفس وأغلى عند الناس من الغنم .

5681 - قال : وأما قوله تعالى : " وفديناه بذبح عظيم " ( سورة الصافات : 107 ) فجائز أن يطلق عليه عظيم لما ذكر عن ابن عباس : أنه رعى في الجنة أربعين خريفا ، وأنه الذي قربه ابن آدم فتقبل منه ، ورفع إلى الجنة ; فلهذا قال فيه : " عظيم " والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية