الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1661 1662 - مالك ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية : " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " [ الأعراف : 172 ] فقال عمر بن الخطاب : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يسأل عنها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ، فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية . وقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون " . فقال رجل : يا رسول الله ! ففيم العمل ؟ قال ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله إذا خلق العبد للجنة ، استعمله بعمل أهل الجنة ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار ، استعمله بعمل أهل النار ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار . فيدخله به النار " .


[ ص: 90 ] 38797 - قال أبو عمر : لم يختلف على مالك في إسناد هذا الحديث ، وهو حديث منقطع لأن مسلم بن يسار هذا لم يلق عمر بن الخطاب ، بينهما نعيم بن ربيعة ، هذا إن صح لأن الذي رواه عن زيد بن أنيسة ، فذكر فيه نعيم بن ربيعة ، ليس هو أحفظ من مالك ، ولا ممن يحتج به إذا خالفه مالك ، ومع ذلك فإن نعيم بن ربيعة ، ومسلم بن يسار جميعا مجهولان غير معروفين بحمل العلم ونقل الحديث .

38798 - وليس هو مسلم بن يسار البصري العابد ، وإنما هو رجل مدني مجهول .

38799 - حدثني عبد الوارث بن سفيان قال : حدثني قاسم بن أصبغ قال : حدثني أحمد بن زهير قال : قرأت على يحيى بن معين حديث مالك هذا ، عن زيد بن أبي أنيسة ، فكتب بيده على مسلم بن يسار : لا يعرف .

38800 - قال أبو عمر : هذا الحديث وإن كان عليل الإسناد ، فإن معناه قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرة ، من حديث عمر بن الخطاب ، وغيره .

38801 - وممن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه في القدر علي بن أبي طالب ، وأبي بن كعب ، وابن عباس ، وابن عمر ، وأبو هريرة ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو سريحة الغفاري ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وذو اللحية [ ص: 91 ] الكلابي ، وعمران بن حصين ، وعائشة ، وأنس بن مالك ، وسراقة بن جعشم ، وأبو موسى الأشعري ، وعبادة بن الصامت .

38802 - وقد ذكرنا ما استحسنا من طرق أحاديثهم في " التمهيد " ، ومن أحسنها حديث علي ، رواه منصور ، والأعمش عن سعد بن عبدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي ( رضي الله عنه ) ، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا وفي يده عود ينكت به ، فرفع رأسه ، وقال : " ما منكم من نفس منفوسة ، إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار " .

فقالوا : يا رسول الله ! فلم تعمل ؟

قال : " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " ، وقرأ :
فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى
" [ الليل : 5 - 10 ] .

38803 - وقد ذكرنا هذا الحديث ببعض أسانيده في " التمهيد " .

38804 - ومثله حديث عمران بن حصين حدثني أحمد بن فتح ، وعبد الرحمن بن يحيى قالا : أخبرنا حمزة بن محمد قال : حدثني سليمان بن الحسن البصري بالبصرة قال : حدثني عبيد الله بن معاذ قال : حدثني أبي قال : حدثني سليمان بن حيان قال : حدثني عن يزيد الرشك ، عن مطرف بن عبد الله ، عن عمران بن حصين قال : قال رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أعلم أهل الجنة من أهل [ ص: 92 ] النار ؟ قال : " نعم " قال فما يعمل العاملون ؟ قال : " كل ميسر لما خلق له " .

38805 - قال حمزة : هذا حديث صحيح رواه جماعة من حديث يزيد الرشك منهم ابن شعبة الحجاج ، وحماد بن زيد ، وعبد الوارث بن سعيد .

38806 - وحدثني إبراهيم بن شاكر قال : حدثني عبد الله بن محمد بن عثمان قال : حدثني سعيد بن خمير ، وسعيد بن عثمان قالا : حدثني أحمد بن عبد الله بن صالح قال : أخبرنا عثمان بن عمر قال : أخبرنا عزرة بن ثابت ، عن يحيى بن عقيل ، عن يحيى بن يعمر ، عن أبي الأسود الدئلي قال : قال لي عمران بن حصين : أرأيت ما يعمل الناس ، ويكدحون فيه ، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم ؟ أو فيما يستقبلوك مما أتاهم به نبيهم ، واتخذت عليهم به الحجة ؟ قلت : لا بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم وقال : فهل يكون شيء من ذلك ظلما ؟ قال : ففزعت من ذلك فزعا شديدا ، وقلت : إنه ليس شيء إلا خلق الله وملك يده ، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون . فقال : سددك الله إني والله ما سألتك إلا لأحرز عقلك ، إن رجلا من مزينة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ، ويكدحون أشيء قضي عليهم ومضى عليهم ؟ أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم واتخذت عليهم به الحجة ؟ قال : " لا بل شيء قضي عليهم ومضى [ ص: 93 ] عليهم " قال : فلم نعمل إذن ؟ فقال : " من خلقه الله لواحدة من المنزلتين ، فهو يستعمل لها ؟ وتصديق ذلك في كتاب الله - عز وجل - : " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " [ الشمس 6 ، 7 ] .

38807 - قال أبو عمر : قال الله تعالى : " فالتقى الماء على أمر قد قدر " [ القمر : 12 ] . وقال : " وكان أمر الله قدرا مقدورا " [ الأحزاب : 38 ] .

38808 - وقال العلماء والحكماء قديما : القدر سر الله ، فلا تنظروا فيه ، فلو شاء الله ألا يعصى ، ما عصاه أحد ، فالعباد أدق شأنا ، وأحقر من أن يعصوا الله إلا بما يريد .

38809 - وقد روي عن الحسن أنه قال : لو شاء الله أن لا يعصى ، ما خلق إبليس .

38810 - وقال مطرف بن الشخير : لو كان الخير في يد أحد ، ما استطاع أن يجعله في قلبه حتى يكون الله - عز وجل - هو الذي يجعله فيه .

38811 - قال : وجدت ابن آدم ملقى بين يدي الله والشيطان ، فإن اختاره الله إليه نجا ، وإن خلا بينه وبين الشيطان ذهب به .

38812 - ولقد أحسن القائل حيث قال :


ليس لله العظيم ند وهذه الأقدار لا ترد     لهن وقت ولهن حد
مؤخر بعض وبعض نفد [ ص: 94 ]     وليس من هذا وهذا بد
وليس محتوما لحي خلد

.

38813 - وفي الحديث المرفوع : " إذا أراد الله - عز وجل - بعبده خيرا ، سلك في قلبه اليقين والتصديق ، وإذ أراد الله - عز وجل - بعبده شرا ، سلك في قلبه الريبة والتكذيب " .

38814 - وقال الله - عز وجل - : " كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به " [ الحجر : 12 - 13 ] .

38815 - وقال الله - عز وجل - : " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا " [ الأنعام : 125 ] وقال الله عز وجل : " ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء " [ النحل : 93 ] وقال الله - عز وجل - : " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " [ الأعراف : 155 ] .

38816 - وقال الفضل الرقاشي لإياس بن معاوية : يا أبا وائلة ! ما تقول في هذا الكلام الذي أكثر الناس فيه ؟ يعني القدر قال : إن أقررت بالعلم خصمت ، وإن أنكرت كفرت .

38817 - وقال الأوزاعي - رحمه الله - : هلك عبادنا وخيارنا في هذا الرأي يعني القدر .

38818 - وسمع ابن عباس رجلين يختصمان في القدر ، فقال : ما منكما إلا [ ص: 95 ] زائغ .

38819 - وروى سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن الحسن بن محمد ابن الحنفية قال : أول ما تكلم به القدرية أن جاء رجل فقال : كان من قدر الله - عز وجل - أن شررة طارت فأحرقت الكعبة ، فقال آخر : ليس من قدر الله أن يحرق الكعبة .

38820 - قال أبو عمر : قد أكثر أهل الحديث من تخريج الآثار في هذا الباب ، وأكثر المتكلمون فيه من الكلام والجدال .

38821 - وأما أهل السنة فمجتمعون على الإيمان بالقدر على ما جاء في هذه الآثار ومثله من ذلك ، وعلى اعتقاد معانيها ، وترك المجادلة فيها .

38822 - حدثني محمد بن زكريا قال : حدثني أحمد بن سعيد قال : حدثني أحمد بن خالد قال : حدثني مروان بن عبد الملك قال : حدثني محمد بن بشار قال : حدثني وكيع قال : حدثني سفيان ، عن محمد بن جحادة ، عن قتادة ، عن أبي السوار العدوي ، عن حسن بن علي قال : رفع الكتاب ، وجف القلم ، وأمور تقضى في كتاب قد خلا .

38823 - قال : وحدثني مروان بن عبد الملك قال : حدثني أبو حاتم قال : حدثني الأصمعي قال : حدثني المعتمر بن سليمان ، عن أبيه قال : أما والله لو [ ص: 96 ] كشف الغطاء ، لعلمت القدرية أن الله ليس بظلام للعبيد .

38824 - وروى حماد بن سلمة ، عن يونس بن عبيد قال : كان الحسن إذا قرأ هذه الآية : " هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم " [ النجم : 32 ] قال : علم الله - عز وجل - كل نفس ما هي عاملة ، وإلى ما هي صائرة .

38825 - وروى أبو حاتم السجستاني ، عن الأصمعي قال : سألت أعرابيا عن القدر ، فقال : ذلك علم اختصمت فيه الظنون ، وتغالب فيه المختلفون . والواجب علينا أن نرد ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق فيه من علمه .

38826 - قال أبو عمر : أحسن ما رأيت رجزا في معنى القدر قول ذي النون إبراهيم الإخميني :


قدر ما شاء كيف شاء ولم     يطلع على علم غيبه بشرا
ويرى من العباد منفردا     محتجبا في السماء ليس يرى
ثم جرى بالذي قضى قلم     أجراه في اللوح ربنا فجرى
لا خير في كثرة الجدال ولا     في من تعدى فأنكر القدر
من يهده الله لن يضل ومن     يضلل فلن يهتدي وقد خسرا
دعوته للعباد شاملة     وخص بالخير منهم نفرا



[ ص: 97 ] 38827 - قال أبو عمر : قد اختلف العلماء في معنى قوله تعالى : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " [ الذاريات : 56 ] .

38828 - وروي عن ابن عباس : [ إلا ليعبدوني ] قال ليقروا بالعبودية طوعا وكرها .

38829 - وقال مجاهد ، وابن جريج : إلا ليعرفوني .

38830 - وقال الضحاك بن مزاحم : هي آية عظيمة عامة في المنطق خاصة في المؤمنين .

38831 - وقال الشافعي : هي خاصة ، يعني أنه خلق الأنبياء والمؤمنين لعبادته .

38832 - قال : والدليل على خصوصها قوله : " وما تشاءون إلا أن يشاء الله " [ الإنسان : 30 ] ، فلن يكون بخلقه مشيئة إلا أن يشاء الله .

38833 - ومن أحسن ما قيل من النظم في قدم العمل وأن ما يكون من خلق الله ، فقد سبق العلم به ، وجف القلم به ، وأنه لا يكون في ملكه إلا ما يشاء ، لا شاء غيره ، قول الشافعي - رضي الله عنه - رويناه من طرق عن المزني وعن الربيع عنه ، أنه قال في أبيات له :

[ ص: 98 ]

فما شئت كان وإن لم أشأ     وما شئت وإن لم تشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت     وفي العلم يجري الفتى والمسن
على ذا مننت وهذا خذلت     وهذا أعنت وذا لم تعن
فمنهم شقي ومنهم سعيد     ومنهم قبيح ومنهم حسن
ومنهم فقير ومنهم غني     وكل بأعماله مرتهن

.

38834 - قال أبو عمر : كل ما في هذه الأبيات معتقد أهل السنة ومذهبهم في القدر ، لا يختلفون فيه ، وهو أصل ما يبنون في ذلك عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية