الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1683 1684 - مالك ، عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ، ولا يحل لمسلم أن يهاجر أخاه فوق ثلاث ليال " .

قال مالك : لا أحسب التدابر إلا الإعراض عن أخيك المسلم ، فتدبر عنه بوجهك .


[ ص: 147 ] 39010 - كذا قال يحيى : يهاجر ، وسائر الرواة يقولون : يهجر .

39011 - قال أبو عمر : قوله : " لا تباغضوا " نهي معناه الندب إلى رياضة النفس على التحاب لأن المحبة والبغضة لا يكاد المرء يغلب فيهما نفسه لقول الله تعالى : لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم [ الأنفال : 63 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف " .

39012 - وقد تقدم حديث أبي الدرداء أن البغضة حالقة للدين لأنها تبعث على الغيبة وستر المحاسن ، وإظهار المساوئ ، وربما آلت إلى أكثر من ذلك ، ولا معصوم إلا من عصمه الله ( تعالى ) .

39013 - وأما قوله : " فلا تحاسدوا " فليس على ظاهره ، وإنما معناه : لا يحسد أحدكم أخاه على نعمة أتاه الله ، وليسأل الله من فضله .

39014 - وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسد في الخير فقال : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به ليله ، ورجل أتاه الله علما - أو قال : حكمة - فهو يقضي بها ويعلمها " .

[ ص: 148 ] 39015 - هكذا حديث ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

39016 - وروى ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن ، فهو يقوم به آناء الليل والنهار ، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل والنهار " .

39017 - وقد ذكرنا الحديثين بأسانيدهما في " التمهيد " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " إذا حسدتم ، فلا تبغوا وإذا ظننتم فلا تحققوا ، وإذا تطيرتم فامضوا ، وعلى الله فتوكلوا " .

[ ص: 149 ] 39018 - ويقال : إن الحسد لا يكاد يسلم منه أحد ، فمن لم يحمله حسده على البغي ، لم يضره حسده .

39019 - وروينا عن الحسن البصري أنه قال : ليس أحد من ولد آدم إلا وقد خلق معه الحسد ، فمن لم يجاوزه إلى الظلم والبغي ، لم يتبعه منه شيء .

39020 - وقد أشبعنا هذا المعنى بالآثار عن السلف في ذم الحسد وفضل من لم يحسد الناس في باب الزهري ، عن أنس في " التمهيد " .

39021 - وأما قوله : " ولا تدابروا " : فقد مضى تفسيره لمالك وغيره في هذا الباب .

39022 - وأما قوله : " ولا يحل لمسلم أن يهجر ، أو يهاجر أخاه " فهو عندي مخصوص أيضا بحديث كعب بن مالك إذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يهجروه ، ويقطعوا الكلام عنه ، والسلام عليه لما أحدثه في تخلفه عن غزوة تبوك وهو قادر على الغزو .

39023 - وقد جعل بعض أهل العلم حديث كعب هذا أصلا في هجران أهل البدع ومن أحدث في الدين ما لم يرض .

39024 - والذي عندي أن من خشي من مجالسته ومكالمته الضرر في الدين أو في الدنيا ، والزيادة في العداوة والبغضاء ، فهجرانه والبعد عنه خير من قربه لأنه [ ص: 150 ] يحفظ عليك زلاتك ، ويماريك في صوابك ، ولا تسلم من سوء عاقبة خلطته ورب صرم جميل خير من مخالطة مؤذية .

39025 - وذكر ابن وهب ، عن مالك أنه قال : إذا سلم عليه ، فقد قطع الهجرة .

39026 - وقال أبو بكر الأثرم : قلت لأحمد بن حنبل : إذا سلم عليه ، هل يجزئه من ذلك سلامه ؟ قال : ينظر إلى ما كان عليه قبل المصارمة ، فلا يخرجه من الهجران إلا بالعودة إلى ما كان عليه ، ولا يخرجه من الهجرة إلا سلام ليس معه إعراض ولا إدبار .

39027 - قال أبو عمر : قد روي عن مالك أيضا هذا المعنى ، والآثار المرفوعة تشهد لما رواه ابن وهب ، وقد تقدمت .

التالي السابق


الخدمات العلمية