الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1725 [ ص: 288 ] ( 10 ) باب جامع ما جاء في الطعام والشراب

1726 - مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول : قال أبو طلحة لأم سليم : لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا ، أعرف فيه الجوع ، فهل عندك من شيء " فقالت : نعم ، فأخرجت أقراصا من شعير ، ثم أخذت خمارا له ، فلفت الخبز ببعضه ، ثم دسته تحت يدي ، وردتني ببعضه ، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فذهبت به ، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في المسجد ومعه الناس ، فقمت عليهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرسلك أبو طلحة ؟ " فقلت : نعم . قال " للطعام ؟ " فقلت : نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لمن معه : " قوموا " قال : فانطلق ، وانطلقت بين أيديهم ، حتى جئت أبا طلحة فأخبرته . فقال أبو طلحة : يا أم سليم ، قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ، وليس عندنا من الطعام ما نطعمهم ، فقالت : الله ورسوله أعلم قال فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه حتى دخلا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هلمي يا أم سليم ، ما عندك ؟ " فأتت بذلك الخبز فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففت ، وعصرت عليه أم سليم ، عكة [ ص: 289 ] لها فآدمته ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول ، ثم قال : " ائذن لعشرة بالدخول " فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال : " ائذن لعشرة بالدخول " فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال : " ائذن لعشرة " فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال : " ائذن لعشرة " فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال " ائذن لعشرة " حتى أكل القوم كلهم وشبعوا ، والقوم سبعون رجلا ، أو ثمانون رجلا .


39654 - قال أبو عمر : وفي الحديث قبول مواساة الصديق ، وقبول صدقته وهديته وأكل طعامه .

39655 - وفيه دليل على أن الصلة والهدية ليست بصدقة ، ولو كانت صدقة ما أكلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصدقة وقال : " إن الصدقة لا تحل [ ص: 290 ] لمحمد ولا آل محمد " وفيه أن خبز الشعير عندهم من رفيع الطعام الذي يتهادى ويدعى له الجلة الفضلاء .

39656 - وكان في أول الإسلام [ أكثر ] طعامهم التمر .

39657 - وفيه أن الأنبياء تزوى عنهم الدنيا حتى ليدركون القوت ، ويبلغ بهم الجهد إلى شدة الجوع حتى يضعف منهم الصوت من غير صيام ، كما وصف في هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم .

396658 - وفيه أن الرجل إذا دعي إلى طعام ، جاز له أن يدعو جلساءه ، وجاز لهم الإقبال معه إليه وإن لم ينذرهم صاحب الطعام ، وذلك إذا علم الداعي لهم أن الطعام يحملهم ، وأن ذلك يسر صاحب الطعام ويرضاه ، وإلا فلا .

396659 - وقد قال مالك : لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى طعام أن يحمل معه غيره لأنه لا يدري هل يسر بذلك صاحب الطعام أم لا ، إلا أن يقول له صاحب الطعام : [ ص: 291 ] ادع من لقيت ، فإن قال له ذلك : كان له أن يحمل معه غيره .

39660 - وفيه أن من أخلاق المؤمن الاكتراث إذا نزل به ضيف ، وليس معه ما يكرمه به لأن الضيافة من أخلاق الكرام .

39661 - وفيه من فضل فطنة أم سليم بحسن جوابها [ زوجها ] حين شكا إليها كثرة من حل به من الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلة طعامه فقالت له : الله ورسوله أعلم ، أي أنه لم يأت بهم إلا وسيطعمهم .

39662 - وفيه الخروج إلى الطريق لمن قصد إكراما له إذا كان أهلا لذلك لأنه من البر والكرامة ، وفيه أن صاحب الدار لا يستأذن في داره ، وأن من دخل معه استغنى عن الإذن .

39663 - وفيه أنه لا حرج على الصديق أن يأمر في دار صديقه بما شاء مما يعلم أنه يسر به ولا يسوؤه ذلك ، ألا ترى أنه اشترط عليهم أن يفتوا الخبز وقال لأم سليم : هات ما عندك .

39664 - ولقد أحسن القائل في هذا المعنى مفتخرا بذلك :


يستأنس الضيف في أبياتنا أبدا فليس يعرف خلق أينا الضيف

[ ص: 292 ] 39665 - وفيه دليل أيضا على أن الثريد أعظم بركة من غيره ، ولذلك اشترط به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم .

39666 - وفيه أن الإنسان لا يدخل عليه بيته إلا معه أو بإذنه ، ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ائذن لعشرة ، ثم ائذن لعشرة ، ثم ائذن لعشرة " حتى استوفى جميعهم ، عشرة عشرة ، وكانوا سبعين أو ثمانين رجلا .

39667 - وفيه العلم الواضح من أعلام النبوة والبرهان الساطع من براهينها أن يكون العدد الكبير يأكلون حتى يشبعوا من الطعام اليسير .

39668 - وكم له من مثلها صلى الله عليه وسلم مما قد ذكرنا منه كثيرا في مواضع من كتابنا كتاب " التمهيد " والحمد لله كثيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية