الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
233 203 - وذكر مالك أيضا في هذا الباب عن ابن شهاب ، عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنه أخبره : أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر ، فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذنون ( قال ثعلبة ) جلسنا نتحدث فإذا سكت المؤذنون وقام عمر يخطب أنصتنا ، فلم يتكلم منا أحد .

[ ص: 49 ] 5829 - قال ابن شهاب : فخروج الإمام يقطع الصلاة ، وكلامه يقطع الكلام .


5830 - قال أبو عمر : ألا ترى إلى قول ثعلبة : أنصتنا فلم يتكلم منا أحد ، وقول ابن شهاب : كلام الإمام يقطع الكلام ؟

5831 - وهذا كله يدل على أن الأمر بالإنصات ليس برأي وإنما هو سنة يحتج بها كما احتج ابن شهاب لأن قوله خروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام خبر عن علم علمه لا عن رأي اجتهده ، وهو يرد عند أصحابنا حديث جابر وحديث أبي سعيد وحديث أبي هريرة : " أن النبي - عليه السلام - أمر من جاء والإمام يخطب أن يصلي ركعتين " . أمر بذلك سليكا الغطفاني وغيره .

5832 - واختلف الفقهاء في المسألة : فذهب مالك وأبو حنيفة [ ص: 50 ] وأصحابهما والثوري والليث بن سعد : إلى أن من جاء يوم الجمعة والإمام يخطب ، ودخل المسجد أن يجلس ، ولا يركع لحديث ابن شهاب هذا ، وهو سنة وعمل مستفيض في زمن عمر وغيره .

5833 - ويشهد بصحة ما ذهبوا إليه في ذلك من حديث النبي - عليه السلام - ما رواه الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على منازلهم الأول فالأول ، فإذا خرج الإمام طويت الصحف ، واستمعوا الخطبة " .

[ ص: 51 ] 5834 - فهذا يدل على أنه لا عمل إذا خرج الإمام إلا استماع الخطبة لطي الصحف فيما عدا ذلك ، والله أعلم ، وما رواه عبد الله بن بسر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في معنى ذلك أيضا .

5835 - حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا هارون بن معروف ، قال : حدثنا بشر بن السري ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، قال : كنا مع عبد الله بن بسر [ ص: 52 ] صاحب النبي - عليه السلام - فجاء رجل يتخطى رقاب الناس ، فقال عبد الله بن بسر : جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي - عليه السلام - يخطب ، فقال النبي - عليه السلام : " اجلس ، فقد آذيت " .

5836 - قال أبو عمر : لم يأمره بالركوع ، بل أمره أن يجلس دون أن يركع .

5837 - وذهب الشافعي وابن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري إلى أن كل من دخل المسجد والإمام يخطب أن يركع لحديث جابر وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة ، عن النبي - عليه السلام - لما ذكرنا .

5838 - ولحديث أبي قتادة عن النبي - عليه السلام : " إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس " يريد في كل وقت لم ينه فيه عن [ ص: 53 ] الصلاة .

5839 - ونذكر منه هاهنا طرقا ، فنقول : إن نهيه عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر وعند طلوع الشمس وغروبها يقتضي الإباحة كذلك فيما عدا هذه الأوقات .

5840 - وحديث أبي قتادة مبني على ذلك ، ومعنى حديث أبي قتادة : أمره - عليه السلام - من دخل يوم الجمعة والإمام يخطب أن يركع ركعتين .

5841 - حدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا أحمد بن زهير ، قال محمد بن محبوب ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن داود ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : جاء سليك الغطفاني ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم : " صليت ؟ " قال : لا ، قال : " صل ركعتين وتجوز فيهما " .

5842 - قال أبو عمر : روى هذا الحديث عن النبي - عليه السلام - جابر [ ص: 54 ] بن عبد الله الأنصاري من رواية عمرو بن دينار وأبي الزبير وأبي سفيان : طلحة بن نافع ، كلهم عن جابر .

[ ص: 55 ] 5843 - ورواه الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي - عليه السلام .

5844 - ورواه عياض بن عبد الله بن أبي سرح ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - عليه السلام -

5845 - وهو عند أبي عيينة ، عن محمد بن عجلان ، عن عياض ، عن أبي سعيد ، وعن عمرو بن دينار ، عن جابر .

5846 - وكان سفيان بن عيينة إذا جاء يوم الجمعة والإمام يخطب صلى ركعتين .

5847 - ورواه عن عمرو بن دينار : حماد بن زيد أيضا ، وغيره . 5848 - قال أبو عمر قد قدمنا قوله عليه السلام للذي تخطى الرقاب اجلس .

5849 - واستعمال الحديثين يكون بأن الداخل إن شاء ركع ، وإن شاء لم يركع ، كما قال مالك بإثر حديث أبي قتادة .

[ ص: 56 ] 5850 - قال وذلك حسن وليس بواجب .

5851 - وأما قوله في حديث ابن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك : إنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب إذا خرج عمر ، وجلس على المنبر وأذن المؤذن .

5852 - فهذا موضع فيه بعض الإشكال على من لم تتسع عنايته بعلم الآثار عن السلف . فإنه قد شبه على قوم من أصحابنا في موضع الأذان في يوم الجمعة ، وأنكروا أن يكون الأذان يوم الجمعة بين يدي الإمام كان في زمن النبي - عليه السلام - وأبي بكر وعمر ، وزعموا أن ذلك حدث في زمن هشام بن عبد الملك .

5853 - وهذا قول يدل على قلة علم قائله بذلك .

5854 - وروي عن السائب بن يزيد قال : كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي - عليه السلام - ، وأبي بكر ، وعمر . فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء .

5855 - هكذا ذكر البخاري عن آدم بن أبي إياس عن ابن أبي ذئب عن الزهري وقال فيه : النداء الثالث .

[ ص: 57 ] 5856 - وكذلك رواه ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن السائب بن زيد مثله سواء وجعل النداء الذي أحدثه عثمان على الزوراء نداء ثالثا .

5857 - وذكره أبو داود وغيره من طريق ابن وهب وغيره .

5858 - والنداء الثالث هو الإقامة .

5859 - ورواه معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان الأذان يوم الجمعة على عهد رسول الله - عليه السلام - وأبي بكر وعمر أذانا واحدا حين يخرج الإمام ، فلما كان عثمان كثر الناس فزاد الأذان الأول وأراد أن يتهيأ الناس للجمعة .

5860 - فهذا يدل على أن الأذان الذي زاده عثمان إنما هو أذان ثان على الزوراء قبل الأذان بين يدي الإمام .

5861 - وكذلك تدل الآثار كلها عن السائب بن يزيد ، عن سعيد بن المسيب أن الأذان إنما كان بين يدي الإمام في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر .

5862 - وقد رفع الإشكال في ذلك رواية ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن السائب بن يزيد .

5863 - حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا المعلى ، قال : حدثنا محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن السائب بن يزيد ، قال : كان يؤذن بين يدي النبي - عليه السلام - إذا جلس [ ص: 58 ] على المنبر يوم الجمعة وأبي بكر ، وعمر . فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء على الزوراء .

5864 - فهذا نص في الأذان يوم الجمعة بين يدي الإمام . وعلى هذا العمل عند العلماء في أمصار المسلمين بالعراق والحجاز وغيرهما من الآفاق .

5865 - واختلف الفقهاء هل يؤذن بين يدي الإمام مؤذن واحد أو مؤذنون ؟

5866 - فذكر ابن عبد الحكم ، عن مالك قال : إذا جلس الإمام على المنبر ونادى المنادي منع الناس من البيع تلك الساعة .

5867 - وهذا يدل على أن النداء عنده واحد بين يدي الإمام .

5868 - ويشهد لهذا حديث ابن شهاب ، عن السائب بن يزيد ، أنه لم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مؤذن واحد .

5869 - وهذا يحتمل أن يكون أراد بلالا المواظب على الأذان دون ابن أم مكتوم وغيره .

5870 - والذي في المدونة من قول ابن القاسم روايته عن مالك قال : فإذا جلس الإمام على المنبر وأخذ المؤذنون في الأذان حرم البيع .

5871 - فذكر المؤذنين بلفظ الجمع .

5872 - ويشهد بهذا حديث ابن شهاب ، عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج [ ص: 59 ] عمر ، فإذا خرج وجلس على المنبر ، وأذن المؤذنون ، هكذا بلفظ الجماعة .

5873 - ومعلوم عند العلماء أنه جائز أن يكون المؤذنون واحدا وجماعة في كل صلاة ، إذا كان مترادفا لا يمنع من إقامة الصلاة في وقتها .

5874 - وأما حكاية قول الشافعي فقال : أحب إلي أن يكون الأذان يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر - بين يديه ، فإذا قعد أخذ المؤذن في الأذان ، فإذا فرغ قام الإمام يخطب ، فذكر المؤذن بلفظ الواحد على نحو رواية ابن عبد الحكم .

5875 - قال : وكان عطاء ينكر أن يكون عثمان أحدث الأذان الثاني ، ويقول : أحدثه معاوية .

5876 - قال الشافعي : وأيهما كان فالأذان الذي كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إلي ، وهو الذي ينهى عنده عن البيع .

5877 - وأما قول أبي حنيفة وأصحابه فإن الطحاوي حكى عنهم في مختصره قال : إذا زالت الشمس يوم الجمعة جلس الإمام على المنبر ، وأذن المؤذنون بين يديه ، وامتنع الناس من البيع والشراء وأخذوا في السعي إلى الجمعة ، فإذا فرغ المؤذنون من الأذان قام الإمام فخطب خطبتين ، هكذا قال : وأذن المؤذنون بين يديه ، بلفظ الجماعة .

5878 - وقد أجمع الفقهاء أن الأذان بعرفة يكون بين يدي الإمام .

5879 - وفيما أوردنا من الأثر عن السلف وعن أئمة الفقهاء ما فيه بيان وشفاء إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية