الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1728 1729 - مالك ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يومن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، جائزته يوم وليلة ، وضيافته ثلاثة أيام ، فما كان بعد ذلك فهو صدقة ، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه " .


[ ص: 302 ] 39710 - قال أبو عمر : قد أتينا في " التمهيد " بما فيه شفاء من الآثار المرفوعة ، وأقوال السلف - رحمهم الله - في فضل الصمت ، وأنه منجاة لقوله صلى الله عليه وسلم : " من صمت نجا " ، إلا أن الكلام بالخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإدمان الذكر ، وتلاوة القرآن أفضل من الصمت لأن الكلام بذلك غنيمة ، والصمت سلامة ، والغنيمة فوق السلامة .

39711 - وذكرنا هناك ما للعلماء في معنى قول الله تعالى ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) [ ق : 18 ] .

39712 - وأما الذي يكتب على المؤمن من كلامه ، فمن أحسن ما قيل في ذلك ما رواه النضر بن عباس عن هشام بن حسان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس [ قال : يكتب عن الإنسان كل ما يتكلم به من خير أو شر وما سوى ذلك فلا يكتب .

397713 - وقال أبو حاتم الرازي : حدثني الأنصاري قال : حدثني هشام بن حسان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قوله تعالى ] : ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) [ ق : 18 ] قال : لا يكتب إلا الخير والشر ، وأما قوله : يا غلام اسق [ ص: 303 ] الماء واسرج الفرس ، فلا يكتب .

39714 - وأما قوله : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم جاره ، فإن الله تعالى قد أوصى بالجار ذي القربى ، والجار الجنب ، والصاحب بالجنب " .

39715 - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما زال جبريل يوصيني بالجار ، حتى ظننت أنه سيورثه " .

39716 - وقد ذكرنا في " التمهيد " من حديث سعيد بن أبي سعيد أيضا ، عن ابن شريح الكعبي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والله لا يؤمن جار حتى يأمن جاره بوائقه " .

[ ص: 304 ] 39717 - وذكر مالك ، عن أبي حازم بن دينار أنه قال : كان أهل الجاهلية أبر بالجار منكم ، وهذا قائلهم يقول :


ناري ونار الجار واحدة وإليه قبلي ينزل القدر     ما ضر جار ألا أجاوره
ألا يكون لبابه ستر     أعمى إذا ما جارتي برزت
حتى يواري جارتي الخدر

39718 - وأما قوله : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم ضيفه " . فالمعنى أن المؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر ينبغي أن تكون هذه أخلاقه قول الخير أو الصمت ، وبر الجار ، وإكرام الضيف ، فهذه حلية المؤمن وشمته وخلقه .

39719 - وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " .

39720 - وروى ابن وهب ، والوليد بن مسلم ، وقتيبة بن سعيد ، [ عن ابن لهيعة ] عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا خير فيمن لا يضيف " .

[ ص: 305 ] 39721 - قال أبو عمر : أجمع العلماء على مدح مكرم الضيف ، والثناء عليه بذلك وحمده ، وأن الضيافة من سنن المرسلين ، وأن إبراهيم أول من ضيف الضيف صلى الله عليه وسلم .

39722 - واختلفوا في وجوب الضيافة فكان الليث بن سعد يوجبها .

39723 - قال ابن وهب : وسمعت الليث يقول : الضيافة حق واجب .

39724 - قال أبو عمر : يحتمل أن يكون الليث أراد أن الضيافة واجبة [ في أخلاق الكرام ، ولكن قد حكى ابن وهب وغيره عنه إيجابها ليلة واحدة ، فأجاز ] للعبد المأذون له أن يضيف مما بيده ، وقال به قوم .

39725 - واحتجوا بحديث شعبة ، عن منصور ، عن الشعبي ، عن المقدام بن معد يكرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، " ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم ، فإن أصبح بفنائه فإنه دين له ، إن شاء قضاه ، وإن شاء تركه .

39726 - واحتجوا بأحاديث مرفوعة في مثل هذا المعنى ، قد ذكرتها في " التمهيد " .

39727 - وحديث [ الليث في ذلك ] هو حجة لما ذهب إليه .

[ ص: 306 ] 39728 - حدثني محمد بن خليفة قال : حدثني محمد بن الحسن قال : حدثني موسى بن هارون قال : حدثني قتيبة بن سعيد قال : حدثني الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر قال : قلنا ، يا رسول الله ، إنك تبعثنا فنمر بقوم ، ولا يقرونا ، [ فماذا ترى ] ؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن نزلتم بقوم ، فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا ، فإن لم يفعلوا ، فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي " .

39729 - قال أبو عمر : وهذا يحتمل أن يكون في أول الإسلام ، إذ كانت المواساة واجبة ، ثم أتى الله تعالي بالخير والسعة ، فصارت الضيافة جائزة وكرما مندوبا إليها ، محمودا فاعلها عليها .

39730 - وقال مالك : ليس على أهل الحضر ضيافة .

39731 - وقال سحنون : إنما الضيافة على أهل البادية وأما أهل الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر .

[ ص: 307 ] 39732 - قال أبو عمر : روى إبراهيم بن عبد الله بن همام ابن أخي عبد الرزاق عن عمه عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الضيافة على أهل الوبر ، وليست على أهل المدر " .

39733 - وهذا عندهم حديث موضوع ، وضعه ابن أخي عبد الرزاق - والله أعلم - وهو متروك الحديث .

397734 - وحدثناه عبد الله بن محمد بن يوسف قال : حدثني الحسن بن إسماعيل قال : حدثني بكر بن العلاء القسري القاضي قال : حدثني أبو مسلم الكجي قال : حدثني إبراهيم بن عبد الله ابن أخي عبد الرزاق ، فذكره كما ذكرنا سواء .

39735 - وقال مالك : ليس للعبد المأذون له أن يضيف أحدا ، ولا يهب ، ولا يعير ، ولا يدعو أحدا إلى طعام ، إلا بإذن سيده .

39736 - وهو قول الشافعي ، والحسن بن حي في العبد المأذون له .

39737 - وقال الشافعي : الضيافة على أهل البادية ، والحاضرة والضيافة حق واجب في مكارم الأخلاق .

[ ص: 308 ] 39738 - قال أبو عمر : حديث مالك في هذا الباب عن سعيد ، عن أبي شريح الكعبي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم دل على أن الضيافة ليست بواجبة فرضا لأن الجائزة في لسان العرب العطية والمنحة والصلة ، وذلك لا يكون إلا على اختيار ، لا عن وجوب .

39739 - وفي قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم [ جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ] ضيفه مع إجماعهم على أن إكرام الجار وصلته وعطيته ، ليست بفرض دليل على أن الضيافة أيضا ليست بفرض .

39740 - وروى أبو إسحاق ، عن حارثة بن مضرب عن عمر بن الخطاب ، سمعه يقول : إن إكرام الضيف يوم وليلة ، وضيافته ثلاثة أيام ، فإن أصابه بعد ذلك مرض أو مطر ، فهو دين عليه .

39741 - وكان عبد الله بن عمر يقبل الضيافة ثلاثا ، ثم يقول لنافع ، أنفق فإنا لا نأكل الصدقة ، ويقول : احبسوا عنا صدقتكم .

39742 - وسئل الأوزاعي عمن أطعم ضيفه خبز الشعير وعنده خبز البر ، أو أطعمه الخبز بالزيت وعنده اللحم ، فقال : هذا ممن لا يؤمن بالله واليوم والآخر .

[ ص: 309 ] 39743 - قال أبو عمر : قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه " ، أي لا يقيم على ضيافته أكثر من ثلاث .

39744 - والثواء : الإقامة .

397450 قال كثير :


أريد الثواء عندها وأظنها     إذا ما أطلنا عندها المكث ملت



39746 - وقال الحارث بن حلزة :


آذنتنا ببينها أسماء     رب ثاو يمل منه الثواء



39747 - وقوله : " حتى يحرجهم " . أي حتى يضيق عليهم ، ويضيق نفسه ، والحرج الضيق في لغة القرآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية