الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1730 [ ص: 311 ] 1731 - مالك ، عن وهب بن كيسان ، عن جابر بن عبد الله أنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا قبل الساحل ، فأمر عليها أبا عبيدة بن الجراح ، وهم ثلاثمائة قال وأنا فيهم قال فخرجنا ، حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد ، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك كله ، فكان مزودي تمر قال فكان يقوتناه كل يوم قليلا قليلا ، حتى فني ، ولم تصبنا إلا تمرة تمرة ، فقلت : وما تغني تمرة ؟ فقال : لقد وجدنا فقدها حين فنيت قال ثم انتهينا إلى البحر ، فإذا حوت مثل الظرب ، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة ، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا ، ثم أمر براحلة فرحلت . ثم مرت تحتهما ولم تصبهما .

قال مالك : الظرب الجبيل .


39752 - قال أبو عمر : قال صاحب العين : الظرب بكسر الظاء والجمع الظراب ، وهو ما كان من الحجارة أصله ثابت في جبل أو أرض خزنة ، وكان طرفه الثاني محددا ، فإن كان خلفه الجبل كذلك ، سمي ظربا ، والجمع ظراب .

[ ص: 312 ] 39753 - قال أبو عمر : روى هذا الحديث عن جابر جماعة من ثقاة التابعين ، ومعانيهم متقاربة ، فإذا كان بعضهم يزيد على بعض فيه معنى ليس عند غيرهم ، منهم عمرو بن دينار وأبو الزبير ، وعبيد الله بن مقسم ، وطلحة بن نافع ، وأبو سفيان .

39754 - وقد ذكرنا كثيرا منها في " التمهيد " .

39755 - ورواه ابن جريج مختصرا مستوعبا ، قال : حدثني عمرو بن دينار ، أنه سمع جابر بن عبد الله الأنصاري يقول : غزونا جيش الخبط وأميرنا أبو عبيدة بن الجراح ، فجعنا جوعا شديدا ، فألقى لنا البحر حوتا ، لم نر مثله ، يقال له العنبر ، فأكلنا منه نصف شهر ، وأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه ، فكان يمر الراكب تحته .

39756 - قال أبو عمر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل السرايا والعساكر إلى أرض العدو ، وتلك سنة مسنونة مجتمع عليها ، لا تحتاج إلى استدلال ولا استنباط .

39757 - من أخبار الآحاد في هذا الحديث ما يدل على أن المسلمين إذا نزلت بهم ضرورة يخاف منها تلف النفوس ، ويرجى بالمواساة بقاؤها حينا انتظار الفرج ، [ ص: 313 ] فواجب حينئذ المواساة ، وأن يشارك المرء رفيقه وجاره فيما بيده من القوت .

39758 - ألا ترى إلى حديث الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ، فقال : " اجمعوا أزوادكم " . قال : فجعل الرجل يجيء بالحفنة من التمر ، والحفنة من السويق ، وطرحوا الأنطعة والأكسية ، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده ، ثم قال : " كلوا " . فأكلنا وشبعنا ، وأخذنا في مزاودنا ، فقال : " أشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، من قالها غير شاك دخل الجنة " .

39759 - وقد ذكرنا إسناده في " التمهيد " .

39760 - وقال بعض العلماء : جمع الأزواد في السفر سنة ، وأن يخرج القوم إذا خرجوا في سفر بنفقتهم جميعا ، فإن ذلك أطيب لنفوسهم ، وأحسن لأخلاقهم ، وأحرى أن يبارك لهم .

39761 - قال أبو عمر : فجمع أبي عبيدة لأزواد الجيش الذي كان أميرا عليه ، مأخوذ من السنة المذكورة في حديث أبي هريرة وغيره .

39762 - وقد استدل بعض الفقهاء بحديث أبي هريرة هذا ، وفعل أبي عبيدة [ ص: 314 ] في الأمر بإخراج الأزواد ، وجمعها ، والمواساة على التساوي فيها ، فإنه جائز للإمام عند قلة الطعام ، وارتفاع السعر ، وعدم القوت أن يأمر من عنده طعام يفضل عن قوته بإخراجه للبيع ، ورأى أن إجباره على ذلك من الواجب لما فيه من توفيق الناس ، وصلاح حالهم ، وإحيائهم والإبقاء عليهم .

39763 - وقد كان عمر بن الخطاب - رحمه الله - يجعل مع كل أهل بيت مثل عددهم عام الرمادة ، ويقول ، لن يهلك امرؤ عن نصف قوته .

39764 - وهذا كله في معنى الأزواد الذي أتت السنة به لما فيه من مصلحة العامة ، وإدخال الرفق عليهم .

39765 - وقد قال مالك : لا يجوز احتكار الطعام في سواحل المسلمين لأن ذلك يضر بهم ، ويزيد في غلاء سعرهم ، ومن أضر بالناس حيل بينه وبين ذلك .

39766 - وقال أيضا : لا يخرج الطعام من سوق بلد إلى غيره ، إذا كان ذلك يضر بأهله ، فإن لم يضر بهم ، فلا بأس أن يشتريه كل من احتاج إليه .

39766 - وهذا كله من قوله خلاف قوله : لا يجبر الناس على إخراج الطعام في الغلاء ، ولا يجوز التسعير على أهل الأسواق ، وذلك ظلم ، ولكن من انحط من السعر ، قيل له : ألحق ، وإلا فاخرج .

39768 - وقد أوضحنا هذه المعاني في كتاب البيوع .

[ ص: 315 ] 39769 - وفي هذا الحديث جواز أكل دواب البحر ، ميتة وغير ميتة ، بخلاف قول الكوفيين ، أنه لا يجوز أكل شيء من دواب البحر إلا السمك ، ما لم يكن طافيا ، فإن كان السمك طافيا ، لم يؤكل أيضا .

39770 - وهذه المسألة قد أوضحناها في كتاب الطهارة ، عند قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته " ، وفي كتاب الصيد أيضا ، فلا معنى لإعادتها .

39771 - وقد احتج بهذا الحديث من أجاز أكل لحم الصيد إذا أنتن ، وكذلك كل ما ذكي لأنه معلوم أن الحوت والميتة كلها إذا بقيت أياما أنتنت ، وقد أكل أبو عبيدة وأصحابه من ذلك الحوت ثماني عشرة ليلة ، فلا شك أنهم كانوا يأكلونه بعد أن أصل وأنتن ، والذكي لا يضره نتنه من جهة الحرام وأنه كره لرائحته .

39772 - وقال جماعة من أهل العلم : لا يؤكل إذا أنتن لأنه حينئذ من الخبائث ، ورجس من الأرجاس وإن كان مذكى .

39773 - واحتجوا بحديث أبي ثعلبة الخشني ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك .

39774 - حدثناه سعيد بن سيد قال : حدثني عبد الله بن محمد بن علي قال : حدثني محمد بن عبد الملك بن أيمن .

39775 - وحدثني عبد الوارث بن سفيان قال : حدثني قاسم بن أصبغ قال : [ ص: 316 ] حدثني ابن وضاح قال : حدثني موسى بن معاوية قال : حدثني معن بن عيسى ، عن معاوية بن صالح ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلوا الصيد وإن وجدتموه بعد ثلاث ، ما لم ينتن " .

39776 - وذكروا أن جيش أبي عبيدة كانوا جياعا مضطرين ، تحل لهم الميتة ، فلذلك أكلوا ذلك الحوت .

39777 - وقد أتينا بما عورضوا به في كتاب الطهارة ، وأتينا بما للعلماء في أكل الصيد إذا بات عن صائده ، أو غاب عنه مصرعه في كتاب الصيد ، والحمد لله كثيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية