الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1734 - مالك أنه بلغه أن عيسى ابن مريم كان يقول : يا بني إسرائيل عليكم بالماء القراح ، والبقل البري ، وخبز الشعير ، وإياكم وخبز [ ص: 321 ] البر فإنكم لن تقوموا بشكره .


39800 - قال أبو عمر : الماء القراح هو الصافي الذي لا يشوبه شيء ، لم يمزج بعسل ولا زيت ، ولا تمر ، ولا غير ذلك مما تصنع منه الأشربة .

39801 - قال أبو عمر : ما جاء في الآثار في أن قول العبد على طعامه : " الحمد لله " ، شكر تلك النعمة يعارض خبر عيسى هذا .

39802 - وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر ، أنه قال : " أفضل الشكر الحمد لله " .

39803 - وكان عيسى عليه السلام أشد الأنبياء زهدا في الدنيا وإن كانوا كلهم زهادا فيها ، وما بعث نبي قط إلا بالزهد في الدنيا والنهي عن الرغبة فيها .

39804 - حدثني أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال : حدثني أبي قال : حدثني عبد الله بن يونس قال : حدثني بقي بن مخلد قال : حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثني شريك ، عن عاصم و [ الأعمش ] ، عن أبي صالح رفعه إلى النبي عليه السلام قال لأصحابه : " اتخذوا المساجد مساكن واتخذوا [ ص: 322 ] البيوت منازل ، وانجوا من الدنيا بسلام ، وكلوا من بقل البرية " .

39805 - وزاد الأعمش فيه : واشربوا من الماء القراح " .

39806 - قال : وحدثني جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن عبيد بن عمير قال : كان عيسى ( عليه السلام ) : لا يرفع غداء لعشاء ، ولا عشاء لغداء ، وكان يقول : إن مع كل يوم رزقه ، وكان يلبس الشعر ويأكل الشجر ، وينام حيث أمسى .

39807 - وروينا أن عيسى ( عليه السلام ) قال له الحواريون : يا عيسى ابن مريم ، ما تأكل ؟ قال : " خبز الشعير " قالوا : وما تلبس ؟ قال : " الصوف " . قالوا : وما تفترش ؟ قال : " الأرض " . قالوا : كل هذا شديد ؟ قال : " لن تنالوا ملكوت السماوات والأرض حتى تصيبوا هذا على لذة " أو قال : على شهوة .

39808 - وروى أبو معاوية ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الصفة ، فقال : " كيف أصبحتم ؟ " قالوا : بخير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنتم اليوم خير أم إذا غدا على أحدكم بجفنة وريح عليه بأخرى وستر أحدكم بيته كما تستر الكعبة " ؟ .

39809 - قالوا : يا رسول الله ، نصيب ذلك ونحن على ديننا ؟ قال : " نعم " . قالوا : فنحن يومئذ خير نتصدق ونعتق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بل أنتم اليوم [ ص: 323 ] خير ، إنكم إذا أصبتم ذلك ، تحاسدتم ، وتباغضتم ، وتقاطعتم "
.

39810 - قال أبو عمر : من الدليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصد أصحابه ويردعهم على خواطر حب الدنيا ، وما يعرض في القلوب من تمنيها ، ويزهدهم فيها ، ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ، أن سألته ابنته فاطمة - رضي الله عنها - خادما يخدمها مما أفاء الله عليه تصونها عن الطحين ومؤنة البيت ، فقال لها : " ألا أدلك على ما هو خير لك من ذلك ؟ تسبحين الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، وتحمدينه ثلاثا وثلاثين ، وتهللينه أربعا وثلاثين " .

39811 - ومثل ذلك حديث عقبة بن عامر قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة ، فقال : " أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلىبطحان أو العقيق ، فيأتي منه بناقتين [ كوماوين ] في غير إثم ولا قطيعة رحم ؟ " . فقلنا : يا رسول الله ، كلنا نحب ذلك فقال : "أفلا أدلكم على ما هو خير من ذلك ، يغدو أحدكم إلى المسجد ، فيتعلم آية من كتاب الله ، خير له من ناقة ، وآيتين خير له من ناقتين ، [ ص: 324 ] وثلاث خير له من ثلاث ، وأربع خير له من أربع ، ومن أعدادهن من الإبل " .

39812 - وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " والله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكنى أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا ، فتتنافسون فيها ، كما تنافس من قبلكم ، فتهلككم كما أهلكتهم " .

39813 - والآثار في هذا المعنى كثيرة عنه صلى الله عليه وسلم جدا ، ومن فهم ووفق ، فالقليل يكفيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية