الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1737 1739 - مالك ، عن محمد بن عمرو بن حلحلة ، عن حميد بن مالك بن خثيم أنه قال : كنت جالسا مع أبي هريرة بأرضه بالعقيق ، فأتاه قوم [ ص: 334 ] من أهل المدينة على دواب ، فنزلوا عنده قال حميد ، فقال أبو هريرة : اذهب إلى أمي فقل : إن ابنك يقرئك السلام ويقول : أطعمينا شيئا قال : فوضعت ثلاثة أقراص في صحفة ، وشيئا من زيت وملح ، ثم وضعتها على رأسي ، وحملتها إليهم ، فلما وضعتها بين أيديهم ، كبر أبو هريرة وقال : الحمد لله الذي أشبعنا من الخبز بعد أن لم يكن طعامنا إلا الأسودين الماء والتمر ، فلم يصب القوم من الطعام شيئا ، فلما انصرفوا قال : يابن أخي ، أحسن إلى غنمك ، وامسح الرعام عنها ، وأطب مراحها ، وصل في ناحيتها فإنها من دواب الجنة ، والذي نفسي بيده ليوشك أن يأتي على الناس زمان تكون الثلة من الغنم أحب إلى صاحبها من دار مروان .


39844 - قال أبو عمر : في هذا الخبر ما كانوا عليه من إتحاف الضيف النازل بهم والقادم عليهم والداخل إليهم ، بما يسر من الطعام ، وهذا عند الجميع منهم كان معهودا بالسنة المعمول بها ، والمقدم إليهم بالخيار ، إن قدر على الأكل أكل ، وإلا فلا حرج .

39845 - ومن حسن الآداب أن يأكل منه ما قدر عليه لتطيب بذلك نفس الذي قدمه إليه .

[ ص: 335 ] 39846 - وأما قوله : أحسن إلى غنمك فالإحسان إليه ، ارتياد الراعي الحائط لها المتبع بها موضع الكلأ وجيد المرعى .

39847 - وقوله امسح الرعام ، فالرعام ما يسيل من أنوفها من المخاط .

9848 - وقوله : أطب مراحها . يريد بالكنس ، وإبعاد الطين ، وإزاحة الوسخ عنه ، والمراح الموضع الذي تأوي إليه ليلا أو نهارا .

39849 - وقوله : صل في ناحيتها فمأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم : " صلوا في مراح الغنم " .

39850 - وهذا أمر معناه الإباحة عند الجميع لأن المساجد أولى من مراح الغنم بالصلاة ، وفي إباحة الصلاة في مراحها دليل على إباحة بولها وبعرها .

39851 - وقد ذكرنا اختلاف العلماء في ذلك [ وفي معنى النهي عن الصلاة في أعطان الإبل ] في كتاب الصلاة .

39852 - تقول العرب : مراح الغنم ، وعطن الإبل ، ومرابض البقر كل ذلك في الموضع الذي تأوي إليه .

39853 - وقد قيل : إن عطن الإبل موضع انصرافها ومناخها عن السقي ، [ ص: 336 ] والثلة من الغنم ، قيل : المائة ونحوها ، ودار مروان بن الحكم أشرف دار بالمدينة كانت ، ولذلك ضربت بها العرب المثل .

39854 - قال الشاعر :


ما بالمدينة دار غير واحدة دار الخليفة ، إلا دار مروان



39855 - وفي هذا الخبر دليل على أن الحديث بالحدثان مباح إذا صح عند المخبر به بأي وجه كان ، ودليل أيضا على أن المدن تكثر فيها الفتن ، والتقاتل على الدنيا حتى تفسد وتهلك ، ويكون الفرار منها إلى القفار والشعاب ، بقطائع الغنم كما قال صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ، ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن ، ويقيم الصلاة ، ويؤتي الزكاة " .

التالي السابق


الخدمات العلمية