الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1798 1804 - مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن غير واحد من علمائهم ; أن أبا موسى الأشعري جاء يستأذن على عمر بن الخطاب ، فاستأذن ثلاثا ثم رجع ، فأرسل عمر بن الخطاب في أثره فقال : ما لك لم تدخل ؟ فقال أبو موسى : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الاستئذان [ ص: 158 ] ثلاث ، فإن أذن لك فادخل ، وإلا فارجع " . فقال عمر : ومن يعلم هذا ؟ لئن لم تأتني بمن يعلم ذلك لأفعلن بك كذا وكذا ، فخرج أبو موسى حتى جاء مجلسا في المسجد ، يقال له مجلس الأنصار ، فقال : إني أخبرت عمر بن الخطاب ; أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الاستئذان ثلاث ، فإن أذن لك فادخل ، وإلا فارجع " . فقال : لئن لم تأتني بمن يعلم هذا لأفعلن بك كذا وكذا ، فإن كان سمع ذلك أحد منكم فليقم معي ، فقالوا لأبي سعيد الخدري : قم معه ، وكان أبو سعيد أصغرهم ، فقام معه ، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب ، فقال عمر بن الخطاب لأبي موسى : أما إني لم أتهمك ، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .


40615 - قال أبو عمر : قد تقدم إسناد هذا الحديث متصلا مسندا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .

40616 - وقد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة ; منهم أبي بن كعب ، وأبو سعيد الخدري .

40617 - ومن أسانيد هذا الحديث ، ما حدثناه عبد الرحمن بن يحيى ، قال : حدثني علي بن محمد ، قال : حدثني أحمد بن داود ، قال : حدثني سحنون [ ص: 159 ] بن سعيد ، قال : حدثني عبد الله بن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحارث ، عن بكير بن الأشج ، أن بسر بن سعيد ، حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول : كنا في مجلس أبي بن كعب ، فأتى أبو موسى مغضبا ، حتى وقف ، فقال : أنشدكم الله ، هل سمع أحد منكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : " الاستئذان ثلاث ، فإن أذن لك ، وإلا فارجع " قال أبي : وما ذاك ؟ قال : استأذنت على عمر أمس ثلاث مرات ، فلم يؤذن لي ، فرجعت ، ثم جئت اليوم ، فدخلت عليه ، فأخبرته أني جئته أمس ، فسلمت ثلاثا ، ثم انصرفت ، فقال : قد سمعناك ، ونحن يومئذ على شغل ، فلو استأذنت حتى يؤذن لك ؟ قال : استأذنت كما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : والله لأوجعن ظهرك وبطنك ، أو لتأتيني بمن شهد لك على هذا ، فقال أبي : والله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا ، الذي بجنبك ، قم يا أبا سعيد ، فقمت ، حتى أتيت عمر ، فقلت : قد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا .

40618 - قال ابن وهب : وقال مالك : الاستئذان ثلاث ، لا أحب أن يزيد أحد عليها ، إلا من علم أنه لم يسمع ، فلا أرى بأسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع .

40619 - قال : وقال مالك الاستئناس فيما نرى - والله أعلم - الاستئذان .

40620 - قال أبو عمر : يريد قول الله - عز وجل - : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها [ النور : 27 ] ، وقد قرئت : [ ص: 160 ] حتى تستأذنوا وتسلموا .

40621 - روي ذلك عن ابن عباس .

40622 - وقد روي عنه ; أنه كان يقرؤها ، كما كان أبي يقرؤها ، وابن مسعود ، يقرآنها : حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا .

40623 - قال عكرمة : تعلمها ابن عباس من أبي ، وكان يقرؤها كذلك .

40624 - وقال هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : هي في مصحف عبد الله كذلك .

40625 - وروى شعبة ، وهشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : أوهم الكاتب ، إنما هي : حتى تستأذنوا وتسلموا .

40626 - حدثني عبد الوارث ، قال : حدثني قاسم ، قال : حدثني بكر ، قال : حدثني مسدد ، قال : حدثني أبو داود ، عن طلحة بن يحيى ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، أنه أتى عمر ، فاستأذن ثلاثا ، قال : يستأذن أبو موسى ، يستأذن الأشعري ، يستأذن عبد الله بن قيس ، فلم يؤذن له ، فرجع ، فبعث إليه عمر : فقال : ما ردك ؟ فقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يستأذن أحدكم ثلاثا ، فإن أذن له ، وإلا فليرجع " فقال : ائتني ببينة على هذا ، فقال : هذا أبي ، فانطلقنا إلى عمر : فقال : نعم يا عمر ، لا تكن عذابا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال عمر : لا أكون عذابا [ ص: 161 ] على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

40627 - قال أبو عمر : قد ذكرنا حديث الاستئناس ، هذا من طرق كثيرة في " التمهيد " وفي ألفاظه اختلاف متباين ، لكن المعنى المبتغى فيها ، لم يختلفوا فيه ; وهو أن الاستئذان ثلاث ، فإن أذن له ، وإلا فليرجع ، معناه - إن شاء الله - والله أعلم - لا أنه واجب عليه أن يرجع وإنما فائدة الحديث أنه ليس عليه أن يستأذن أكثر من ذلك .

40628 - وقد قال بعض أهل العلم ; إن الاستئذان ثلاث ، مأخوذ من قول الله عز وجل : ياأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات [ النور : 58 ] .

40629 - قال : يريد ثلاث دفعات .

40630 - قال : فورد القرآن في المماليك والصبيان .

40631 - وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس أجمعين .

40632 - قال أبو عمر : ما ذكره هذا القائل ، وإن كان له وجه ، فإنه غير معروف عن العلماء في تفسير الآية التي نزع بها .

40633 - والذي عليه جمهور أهل العلم في قوله عز وجل ، وفي هذه الآية : [ ص: 162 ] " ثلاث مرات " أي في ثلاث أوقات .

40634 - ويدل على صحة هذا القول مساق الآية وتمامها فيها : من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم [ النور : 58 ] .

40635 - وللكلام في هذه الآية ، في معنى العورات موضع غير هذا .

40636 - وقد زعم قوم أن في قصة أبي موسى الأشعري مع عمر ، في الاستئذان دليل على أن عمر كان لا يقبل خبر الواحد العدل ، حتى يقع إليه ما ينضم إليه العلم الظاهر به ، كالشاهدين .

40637 - قال أبو عمر : ليس كما زعموا ; لأنه معروف عن عمر ، من وجوه متواترة قبوله لخبر الواحد العدل ، ومحال أن يقبل خبر الواحد العدل وهو يدين برده ، ألا ترى أنه قبل خبر الضحاك بن سفيان وحده في ما جهله من ميراث المرأة من دية زوجها ، وكان يذهب إلى أنه لا يرث الدية إلا من يقوم بها من العاقلة ، حتى أخبره الضحاك بن سفيان ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها .

40638 - وقبل أيضا خبر حمل بن مالك بن النابغة الهذلي الأعرابي ، أن في [ ص: 163 ] الجنين غرة ; عبدا أو وليدة ، وقد كان أشكل عليه القضاء في الجنين ، حتى أخبره حمل بن مالك بذلك ، وكانت قصته نزلت به في امرأتيه .

40639 - وقبل خبر عبد الرحمن بن عوف في الجزية ، وفي الطاعون .

40640 - ولا يشك ذو لب أن أبا موسى عند عمر أشهر وأولى بالعدالة ، من الأعرابي الهذلي المذكور .

40641 - وقد صح عن عمر في حديث السقيفة ، أنه قال : إني قائل مقالة ، قد قدر لي أن أقولها ; فمن وعاها وحفظها ، فليحدث بها ، فكيف يأمر من سمع قوله أن يحدث به ، وينهى عن الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " نضر الله عبدا سمع مقالتي ، فوعاها ، ثم أداها إلى من لم يسمعها " ، فندب السامع لحديثه أن يؤديه كما سمعه ، ودعا له إذا فعل ذلك ، ولا وجه للتبليغ إلا القبول ، وإلا لم يكن للتبليغ فائدة ، وحسبك به فضيلة ، ولا يظن بعمر أنه لا يقبل خبر الواحد العدل ، إلا من قل نظره وفهمه ، وغلب عليه الجهل .

40642 - وأما قوله في حديث ربيعة لأبي موسى : أما إني لم أتهمك ، ولكنني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا مما حمله عليه اجتهاده .

40643 - وقد أوضحنا هذا المعنى ، وسائر ما في الحديث من المعاني في " التمهيد " ، والحمد لله .

[ ص: 164 ] 40644 - وإذا كان عمر مع لزومه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وطول مجالسته ، وقيامه ، وقعوده معه يخفى عليه مثل هذا من حديث الاستئذان ، ودية الجنين ، وميراث المرأة من دية زوجها ، وغير ذلك مما قد ذكرناه في غير موضع من كتابنا ، فكيف يجوز لأحد أن يقول في شيء من السنن ، فهذا لا يخفى على إمام ومعلم ، هذا لا يقوله إلا من لا تحصيل له ، ولا يشتغل بقوله ; لأن العلم لا يحيط بجميعه أحد ، ولا عيب على ما فاته الأقل ، إذا كان عنده الأكثر ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية