الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1812 1818 - مالك عن نافع ، عن ابن عمر ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يحتلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه ، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته ، فتكسر خزانته ، فينتقل طعامه ؟ وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم ، فلا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه " .


[ ص: 209 ] 40830 - قال أبو عمر : هذا الحديث يقضي بأن اللبن يسمى طعاما ، وكل مطعوم في اللغة العربية فهو طعام ، واللبن طعام يغني عن الطعام والشراب ، وليس شيء سواه يغني في ذلك سواه .

40831 - وقد مضى هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ما تقدم من هذا الكتاب ، وهذا الحديث في معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يحل مال امرئ مسلم ، إلا عن طيب نفس منه " .

40832 - إلا أن العلماء اختلفوا فيما يأكله الإنسان من الثمار المعلقة في الأشجار ، للمسافر وسائر المارين من مال الصديق وغيره .

40833 - وأكثرهم يجيز أكل مال الصديق ; إذا كان تافها لا يتشاح في مثله ، وإن كان ذلك بغير إذنه ، ما لم يكن يجب فعله .

40834 - واللبن في الضرع يشبه الطعام المخزون تحت الأقفال ; فقد شبهه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بذلك ; في قوله : " فتكسر خزانته " وما أعلم بين أهل العلم خلافا ، أنه لا يجوز كسر قفل مسلم ، ولا ذمي ; لأخذ شيء من ماله بغير إذنه ، والله أعلم .

40835 - وليس الثمر المعلق عند أكثرهم كذلك ، والآثار كثيرة حسان [ ص: 210 ] مذكورة وردت في ذلك ، منها حديث الليث بن سعد ، عن ابن عجلان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ; أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، سئل عن الثمر المعلق ، فقال : " من أصاب من ذي حاجة ، غير متخذ خبنة ، فلا شيء عليه " .

40836 - ومن حديث عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من دخل حائطا ، فأكل منه ، فلا يتخذ خبنة " .

40837 - وروى قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة بن جندب ; أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا أتى أحدكم على ماشية ، فإن كان فيها صاحبها ، فليستأذنه ، فإن أذن له ، فليحتلب وليشرب ، وإن لم يكن فيها أحد ، فليصوت ثلاثة ، فإن أجابه أحد ، فليستأذنه ، وإن لم يجبه أحد ، فليحتلب وليشرب ، ولا يحمل .

[ ص: 211 ] 40838 - وهذه الآثار يحتمل أن تكون في من احتاج وجاع ، أو في مال الصديق إذا كان تافها لا يتشاح .

40839 - وذكر ابن المبارك ، قال : أخبرنا عاصم الأحول ، عن أبي زينب ، قال : صحبت عبد الرحمن بن سمرة ، وأنس بن مالك ، وأبا برزة ، في سفر ، فكانوا يصيبون من الثمر .

40840 - وقال أبو داود الطيالسي ، عن يزيد بن إبراهيم التستري ، قال : سمعت الحسن يقول : يأكل ، ولا يفسد ، ولا يحمل .

40841 - وعن عمر بن الخطاب مثل ذلك ، في أموال أهل الذمة وغيرهم .

40842 - وأما مالك - رحمه الله - فذكر ابن وهب عنه ; أنه سمعه يقول في الرجل يدخل الحائط ، فيجد الثمر ساقطا ، قال : لا يأكل منه إلا أن يعلم أن صاحبه طيب النفس به ، أو يكون محتاجا إلى ذلك ، فأرجو أن لا يكون به بأس ، ولا يكون عليه شيء ، إن شاء الله - تعالى - .

40843 - قال : وسمعت مالكا يقول في المسافر ينزل بالذمي ; أنه لا يأخذ من ماله شيئا إلا بإذنه ، وعن طيب نفس منه ، فقيل لمالك : أرأيت الضيافة التي [ ص: 212 ] جعلت عليهم ثلاثة أيام ؟ فقال : كان يومئذ يخفف عنهم بذلك .

40844 - وذكر الحارث بن مسكين ، قال : سمعت أشهب بن عبد العزيز ، يقول : خرجنا مرابطين إلى الإسكندرية ، فمررنا بجنان الليث بن سعد ، فدخلنا فأكلنا من الثمر ، فلما أن رجعت ، دعتني نفسي أن أستحل ذلك من الليث ، فدخلت إليه ، فقلت : يا أبا الحارث إنا خرجنا مرابطين ومررنا بجنانك ، فأكلنا من الثمر ، وأحببنا أن تجعلنا في حل ، فقال الليث : يا ابن أخي ، لقد نسكت نسكا أعجميا ، أما سمعت الله - عز وجل - يقول : أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا [ النور : 61 ] ، فلا بأس أن يأكل الرجل من مال أخيه ، الشيء التافه الذي يسره بذلك ، وأكثر ذلك فيما كان ثمرا معلقا ، غير المدخرات .

40845 - ومن المدخرات ما لا يتشاح في مثله ، ويعلم أن صاحبه تطيب به نفسه .

40846 - حدثني عبد الوارث ، قال : حدثني قاسم ، قال : حدثني محمد بن عبد السلام ، قال : حدثني محمد بن بشار ، قال : حدثني محمد بن جعفر ، قال : حدثني شعبة ، عن أبي بشر ، قال : سمعت عباد بن شرحبيل ; رجل منا من بني غبر ، قال : أصابتنا مجاعة ، فأتيت المدينة ، فدخلت حائطا ، من حيطانها ، فأخذت [ ص: 213 ] سنبلا ففركته ، وأكلت منه ، وحملت في ثوبي ، فجاءني صاحب الحائط فضربني ، وأخذ ثوبي ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " ما علمته إذ كان جاهلا ، ولا أطعمته إذا كان جائعا " قال : فرد علي الثوب ، وأمر لي بوسق أو نصف وسق .

40847 - قال أبو عمر : يحتمل أن يكون ضربه له ; لأنه أخذ فوق ما سد جوعه ، وما حمل في غير بطنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية