الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1846 1852 - مالك عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يقل أحدكم : يا خيبة الدهر ، فإن الله هو الدهر " .


41242 - هكذا رواه جمهور الرواة عن مالك " يا خيبة الدهر " .

41243 - ورواه سعيد بن هشام الصوفي ، عن مالك ، بإسناده فقال فيه : " لا تسبوا الدهر ; فإن الله هو الدهر " ، وفي بعض النسخ ، عن عبيد الله بن يحيى ، عن أبيه ، في هذا الحديث : " لا يقولن أحدكم : يا خيبة الدهر ، فإن الدهر هو الله " .

41244 - والجماعة يروون : " فإن الله هو الدهر " .

41245 - قال أبو عمر : رواية الأعرج ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا [ ص: 304 ] الحديث كما نقله مالك ، عن أبي الزناد ، عنه ، وكذلك رواه ابن سيرين وخلاس ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر " .

41246 - وهو معنى حديث العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قال الله - عز وجل - : استقرضت عبدي فلم يقرضني ، وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني ; يقول : وادهراه وادهراه ، وأنا الدهر وأنا الدهر " .

41247 - وأما ابن شهاب ; فروى هذا الحديث عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، وعن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " يسب ابن آدم الدهر ، وأنا الدهر ، وبيدي الليل والنهار " .

41248 - وفي روايته عن سعيد ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يؤذيني ابن آدم يسب الدهر ، وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلب الليل والنهار " .

[ ص: 305 ] 41249 - قال أبو عمر : من أهل العلم من يروي حديث ابن شهاب هذا " وأنا الدهر " بالرفع ، فيكون بمعنى حديث مالك ، وما كان مثله .

41250 - ومنهم من يرويه بنصب الدهر على الصرف ، كأنه قال : أنا الدهر كله بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ، وما فيهما .

41251 - وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث كلها في " التمهيد " .

41252 - قال أبو عمر : المعنى عند جماعة العلماء ، في هذا الحديث ، أنه ورد نهيا عن ما كان أهل الجاهلية يقولونه ، من ذم الدهر وسبه ; لما ينزل من المصائب في الأمور والأنفس ، وكانوا يضيفون ذلك إلى الدهر ، ويسبونه ويذمونه بذلك على أنه الفاعل ذلك بهم ، وإذا وقع سبهم على من فعل ذلك بهم ، وقع على الله - عز وجل - ، فجاء النهي عن ذلك تنزيها لله - تعالى - ، وإجلالا له ; لما فيه من مضارعة سب الله وذمه ، تعالى الله عما يقول الجاهلون علوا كبيرا .

41253 - قال امرؤ القيس : ألا إنما ذا الدهر يوم وليلة وليس على شيء قويم بمستمر

[ ص: 306 ] 41254 - وقد ذكرنا كثيرا من أشعارهم في " التمهيد " بهذا المعنى ، وهو شيء لم يكن يسلم منه أحد ، ولم ينه عنه إلا من عصمه الله - عز وجل - بتوفيقه ويسره للعمل بعلمه ، بل هو كثير جار في الإسلام كما كان في الجاهلية ; يذم الدهر مرة ، ويذم الزمان تارة ، وتذم الليالي والأيام مرة ، وتذم الدنيا أيضا .

41255 - وكل ذلك لا يجوز على معنى ما وصفنا ، وبالله التوفيق ، إلا أن أهل الإيمان إذا ذموا الدهر والزمان ، لم يقصدوا بذلك إلا الدهر على قبيح ما يرى منهم ، كما قال حكيم من شعرائهم :

يذم الناس كلهم الزمانا وما لزماننا عيب سوانا     نذم زماننا والعيب فينا
ولو نطق الزمان بنا هجانا     يعاف الذئب يأكل لحم ذئب
ويأكل بعضنا بعضا عيانا

41256 - وربما كان ذمهم للدهر على معنى الاعتبار بما تأتي به المقادير في الليل والنهار ، كما قال أبو العتاهية :

سل القصر أودى أهله :     أين أهله ؟ أكلهم عنه تبدد شمله
أكلهم قضت يد الدهر جمعه     وأفناه قص الدهر يوما وقتله
أخي أرى للدهر نبلا مصيبة     إذا ما رمانا الدهر لم تخط نبله
فلم أر مثل الدهر في طول عدوه     ولا مثل ريب الدهر يؤمن ختله



[ ص: 307 ] 41257 - وقال أيضا :

إن الزمان يغريني بأمانه     ويذيقني المكروه من حدثانه
فأنا النذير من الزمان لكل من     أمسى وأصبح واثقا بزمانه



41258 - [ وقال :

إن الفتى من الفناء قريب     إن الزمان إذا رمى لمصيب
إن الزمان لأهله لمؤدب     لو كان فيهم ينفع التأديب
صفة الزمان حكيمة وبليغة     إن الزمان لشاعر وخطيب
ولقد رأيتك للزمان مجربا     لو كان يحكم رأيك التجريب
ولقد يكلمك الزمان بألسن عربية     وأراك لست تجيب
لو كنت تفهم عن زمانك قوله     لعراك منه تفجع ونحيب
كيف اغتررت بصرف دهرك يا     أخي كيف اغتررت به وأنت لبيب
ولقد حلبت الدهر أشطر دره     حقبا وأنت مجرب وأريب



41259 - وقال منصور الفقيه :

يا حسن الظن بالليالي     أما تراها كيف تفعل
يضحك هذا ، وذاك يبكي     تنصر هذا وذاك تخذل
ذاك معافى ، وذاك مبتلى     وذاك تولي ، وذاك تعزل
أم أنت عن ما تراه من     ذا وذاك من فعلها بمعزل

[ ص: 308 ] 41260 - والمراد بهذا من منصور وغيره ; أن ذلك يقع من الليل والنهار .

41261 - ومثل ذلك قوله أيضا :

للدهر إقبال وإدبار     وكل حال بعدها حال
وآمن الأيام في غفلة     وليس للأيام إغفال



41262 - وقد أنشدنا في باب أبي الزناد ، من كتاب " التمهيد " أشعارا كثيرة من أشعاره الجاهلية ، وأشعارا أيضا كثيرة إسلامية ، فيها ذم الزمان ، وذم الدنيا ، وذم الدهر ، إلا أن المؤمن الموحد ، العالم بالتوحيد ينزه الله - سبحانه وتعالى - عن كل سوء ، ينوي ذلك ويعتقده ، فإن جرى على لسانه شيء على عادة الناس ، استغفر الله وراجع الحق ، وراض نفسه عن العودة إليه ، كما قال بعض الفضلاء العقلاء :

يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا     وأنت والد سوء تأكل الولدا
أستغفر الله ، بل ذا كله قدر     رضيت بالله ربا واحدا صمدا
لا شيء يبقى سوى خير تقدمه     ما دام ملك لإنسان ولا خلدا


41263 - وقال سليمان بن قبة العدوي : وكان مؤمنا صالحا : [ ص: 309 ]

أيا دهر أعملت فينا أذكاك     ووليتنا بعد وجه قفاكا
جعلت الشرار علينا رءوسا     وأجلست سفلتنا مستواكا
فيا دهر إن كنت عاديتنا     فها قد صنعت بنا ما كفاكا


41264 - وقال المساور بن هند :

بليت وعلمي في البلاد مكانه     وأفنا شبابي الدهر وهو جديد



41265 - والأشعار في هذا أكثر من أن يحيط بها كتاب لو أفرد لها ، وأكثر ما يعني المسلم إذا ذم دهره ودنياه وزمانه ، ختل الزمان وأهله وسلطانه .

41266 - والأصل في هذا المعنى في الإسلام وأهله ; قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الدنيا ملعونة ، ملعون ما فيها ، إلا ما كان لله ، أو آوى إلى الله " .

41267 - وأما أهل الجاهلية ; فإنهم كانوا منهم دهرية زنادقة ، لا يعقلون ولا يعرفون الله ، ولا يؤمنون ، وفي قريش منهم قوم وصفهم أهل الأخبار ، كرهت ذكرهم ، وقد حكى الله - تعالى - عنهم ، أو عن بعضهم قولهم : " ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون [ الجاثية : 24 ] .

[ ص: 310 ] 41268 - قال أبو عمر : معنى ما ذكرناه قال أئمة العلماء :

41269 - أخبرنا إبراهيم بن شاكر ، قال : حدثني محمد بن إسحاق القاضي ، قال : حدثني أحمد بن مسعود الزبيري ، بمصر ، قال : حدثني أبو القاسم ; يحيى بن محمد بن يحيى بن أخي حرملة ، قال : حدثني عمي ; حرملة بن يحيى قال : قال الشافعي ، في قول الله - عز وجل - : ما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون [ الجاثية : 24 ] وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تسبوا الدهر ; فإن الله - عز وجل - هو الدهر " ، قال الشافعي : تأويل ذلك - والله أعلم - أن العرب كان شأنها أن تسب الدهر وتذمه عند المصائب التي تنزل بهم من موت ، أو هدم ، أو ذهاب مال ، أو غير ذلك من المصائب ، وتقول : أصابتنا قوارع الدهر ، وأبادهم الدهر ، وأنا عليهم الدهر ، والليل ، والنهار يفعل ذلك بهم ، فيذمون الدهر بذلك ويسبونه .

41270 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تسبوا الدهر على أنه الذي يفعل بكم ذلك ، فإنكم إذا سببتم فاعل ذلك وقع سبكم على الله - عز وجل - فهو الفاعل بذلك كله ، وهو فاعل الأشياء ، ولا شيء إلا ما شاء الله العلي العظيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية