الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
243 [ ص: 87 ] 212 - وأما حديث مالك عن يزيد بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أنه قال : خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار وساق الحديث إلى آخره .


[ ص: 88 ] 5997 - ثم قال : بصرة بن أبي بصرة الغفاري .

[ ص: 89 ] 5998 - فلم يقل في هذا الحديث - فيما علمت - : " فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري في حديث مالك هذا ، عن يزيد بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة " - غيره ، وسائر الرواة إنما فيه عن أبي هريرة قال : لقيت أبا بصرة ، لا بصرة بن أبي بصرة .

5999 - وأظن الوهم جاء فيه من يزيد والله أعلم .

600 - وقد ذكرنا بصرة وأباه : أبا بصرة في كتاب الصحابة بما ينبغي ، والحمد لله .

6001 - وفي هذا الحديث من العلم وجوه : منها الخروج إلى المواضع التي يتبرك بشهودها والصلاة فيها لما بان من بركتها .

6002 - وليس في ذلك ما يعارض قوله : " لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد " على مذهب أبي هريرة ، وإن كان بصرة بن أبي بصرة قد خالفه في ذلك ، فرأى قوله : " لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد " قولا عاما فيها سواها . والله أعلم .

6003 - وكأن أبا هريرة لم ير النهي عن إعمال المطي فيما عدا الثلاثة المساجد إلا في الواجب من النذر ، وكأن عنده : إعمال المطي في سائر السنن [ ص: 90 ] والمباح كزيارة الأخ في الله وشبهه - غير داخل في النهي عن إعمال المطي .

6004 - وقد قال مالك وجماعة من أهل العلم - فيمن نذر رباطا في ثغر يسده - فإنه يلزمه الوفاء به حيث كان الرباط لأنه طاعة لله تعالى .

6005 - فأما من نذر صلاة في مسجد لا يصل إليه إلا برحلة وراحلة ، فلا يفعل ، ويصلي في مسجده ، إلا في الثلاثة المساجد المذكورة ، فإنه من نذر الصلاة فيها خرج إليها .

6006 - قال مالك : من نذر أن يصلي في مسجد لا يصل إليه إلا برحلة فإنه يصلي في مسجد بلده ، إلا أن ينذر ذلك في مسجدمكة والمدينة وبيت المقدس ، فإن نذر في هذه المساجد الثلاثة الصلاة فعليه السير إليها .

6007 - وقد يجوز أن يكون خروج أبي هريرة إلى الطور لحاجة عنت هناك من أمور دنياه وما يعنيه منها ، فإن كان كذلك فليس خروجه من باب لا تعمل المطي في شيء .

6008 - وأما كعب الأحبار فهو كعب بن مانع الحميري من ذي رعين من حمير ، وقيل : من ذي هجر من حمير ، يكنى أبا إسحاق . أسلم في زمن عمر وتوفي في آخر خلافة عثمان ، وقد ذكرنا طرفا من خبره في " التمهيد " .

[ ص: 91 ] [ ص: 92 ] 6009 - وفي هذا الحديث أيضا إباحة الحديث عن التوراة لمن علمها علم ثقة ويقين .

6010 - وكان كعب عالما بها ; لأنه كان حبرا من أحبار يهود ، وإن كان عربي النسب ، فإن من العرب كثيرا تنصر وكثيرا تهود .

6011 - وقد أفردنا بابا كافيا في الحديث عن أهل الكتاب ، وكيف المعنى فيما جاء عنهم في كتاب جامع بيان العلم ، وفيه أن خير الأيام يوم الجمعة ، وفي ذلك فضل بعض الأيام على بعض ، ولا يعلم ذلك إلا بتوقيف وقد صح فضل يوم الجمعة ، ويوم عاشوراء ، ويوم عرفة ، وجاء في يوم الاثنين والخميس ما جاء .

6013 - وروى الأعمش ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن ضمرة ، عن كعب الأحبار ، قال : الصدقة يوم الجمعة تضاعف ، وقد روى حصين ، عن هلال بن [ ص: 93 ] يساف ، عن كعب الأحبار في يوم الجمعة قال : تضاعف فيه الحسنة والسيئة ، وأنه يوم القيامة .

6014 - وفيه الخبر عن خلق آدم وهبوطه إلى الأرض ، وفي ذلك جواز الحديث عن أمور ابتداء الخلق ، وعمن كان قبلنا من الأنبياء ، وعن بني إسرائيل وغيرهم .

6015 - وأهل العلم يرون رواية ذلك عن كل أحد ; لأنه ليس في حكم ، ولا في دم ، ولا فرج ، ولا مال ، ولا حلال ، ولا حرام .

6016 - وقد أوضحنا هذا المعنى في صدر كتاب " التمهيد " .

6017 - وفيه أن آدم تيب عليه يوم الجمعة ، وإن كان في القرآن المحكم أنه " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ( سورة البقرة : الآية 37 ) ليس [ ص: 94 ] فيه أن ذلك كان يوم جمعة .

6018 - وفيه إباحة الحديث عن المستقبل من الأمور ، وإن كان من علم الغيب إذا كان ذلك عمن يوثق به في علمه ودينه ، وكان الخبر مما لا يرده أصل من أصول الشريعة ، لأن كل ما ترده أصول شريعتنا فباطل .

6019 - وليس في قوله : " إن الساعة تقوم يوم الجمعة " دليل على أن الخبر بذلك من علم الساعة الذي لا يعلمه إلا هو ; لأن يوم الجمعة متكرر مع أيام الدنيا فليس في ذكره ما يوجب متى هي .

6020 - وقد سأل عنها رسول الله - عليه السلام - جبريل - عليه السلام - فقال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل .

6021 - وقال تعالى : " قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو " ( سورة الأعراف الآية 187 ( 6022 - وقد ظهر كثير من أشراطها .

6023 - وقال تعالى : " لا تأتيكم إلا بغتة " ( الأعراف الآية ( 187 ) .

6024 - وقوله : " وما من دابة إلا وهي مصيخة ، فالإصاخة الاستماع ، وهو هاهنا سماع حذر وإشفاق ; خشية الفجأة والبغتة .

6025 - وأصل الكلمة : الاستماع .

6026 - قال أعرابي : وحديثها كالقطر يسمعه راعي سنين تتابعت جدبا فأصاخ يرجو أن يكون حيا ويقول من فرح أيا ربا

[ ص: 95 ] 6027 - وقال أمية بن أبي الصلت :

وهم عند رب ينظرون قضاءه يصيخون بالأسماع للوحي ركد



6028 - وقال : كم من مصيخ إلى أوتار غانية ناحت عليه وقد كانت تغنيه

6029 - وقال غيره يصف ثورا بحريا : ويصيخ أحيانا كما اس تمع المضل لصوت ناشد

6030 - والمضل : الذي قد أضل دابته أو بعيره أو غلامه ، يقال منه : أضل سببه فهو مضل .

6031 - والناشد الطالب يقال منه : نشدت ضالتي أنشدها إذا طلبتها ، وناديت عليها .

6032 - وأما المنشد فهو المعرف بالضالة ، وقيل : هو الدال عليها والمعنى متقارب .

6033 - وفي الحديث دليل على أن الإنس والجن لا يعرفون من أمر الساعة ما تعرف الدواب ، وهذا أمر تقصر عنه أفهامنا ، وهذا العلم وشبهه لم نؤت منه إلا قليلا [ ص: 96 ]

6034 - وأما قوله : " فيها ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله إلا أعطاه إياه " فقد اختلف في تلك الساعة .

6035 - وقد قدمنا من ذلك ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى .

6036 - وقول عبد الله بن سلام فيها أثبت شيء إن شاء الله . وقد تابعه ابن عباس وغيره .

6037 - وفي سكوت أبي هريرة لعبد الله بن سلام عند ما ألزمه في ذلك وأدخل عليه في مناظرته إياه ، دليل على متابعة أبي هريرة له وتسليمه لقوله ، والله أعلم .

6038 - وقد روي بنحو قول عبد الله بن سلام أحاديث مرفوعة ، منها حديث موسى بن وردان ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " التمس الساعة التي في يوم الجمعة بعد العصر إلى غروب الشمس " .

6039 - ومنها حديث العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الساعة التي يتحرى فيها الدعاة يوم الجمعة هي آخر ساعة من يوم الجمعة " .

6040 - وحديث أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - أنه قال : " الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة بعد العصر إلى غروب الشمس " .

[ ص: 97 ] 6041 - وحديث جابر عن النبي - عليه السلام - : " التمسوها آخر ساعة بعد العصر " .

6042 - وحديث شعبة عن إبراهيم بن ميسرة قال : أخبرني من أرسله عمرو بن أوس إلى أبي هريرة يسأله عن الساعة التي في يوم الجمعة ، فقال : هي بعد العصر .

6043 - وشعبة عن الحكم عن ابن عباس مثله .

6044 - وشعبة عن يونس بن خباب عن أبي هريرة مثله .

6045 - وجرير عن ليث عن مجاهد .

6046 - وطاوس عن أبي هريرة أنه قال : في الساعة التي في يوم الجمعة بعد العصر حتى تغرب الشمس ، أو بعد الصبح حتى تطلع الشمس .

6047 - قال : وكان طاوس إذا صلى العصر لا يكلم أحدا ولا يلتفت ; مشغولا بالدعاء والذكر حتى تغيب الشمس .

6048 - وقد ذكرنا هذه الأحاديث بأسانيدها في " التمهيد " .

6049 - وذكرنا هناك عن عبد الله بن سلام ، وكعب هذه الساعة التي خلق الله فيها آدم ، وهي آخر ساعة من يوم الجمعة بالإسناد الحسن عنهما أيضا .

6050 - وعن طاوس : أن الساعة من يوم الجمعة التي تقوم فيها الساعة ، والتي أنزل فيها آدم ، والتي لا يدعو فيها المسلم بدعوة صالحة إلا استجيب له من حين تصفر الشمس إلى حين تغيب .

[ ص: 98 ] 6051 - وأما قوله : فقال كعب : هي في كل سنة مرة . فقلت : بل في كل جمعة ، ثم قرأ كعب التوراة فقال : صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففيه دليل على أن العالم يخطئ ، وأنه ربما قال على أكثر ظنه فيخطئه ظنه .

6052 - وفيه أن من سمع الخطأ وهو يعلمه ينكره ويرد على من سمعه منه إذا كان عنده في رده أصل صحيح يركن إليه ، كما صنع أبو هريرة في إنكاره على كعب .

6053 - وفيه أن العالم إذا رد عليه قوله طلب التثبت فيه ، والوقوف على صحته ، حيث رجاه في مظانه ومواضعه حتى يصح له أو يصح قول مخالفه فينصرف إليه .

6054 - وفيه دليل على أن الواجب على كل من سمع الحق وعرفه الانصراف إليه .

6055 - وأما قوله عن أبي هريرة في هذا الحديث : فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري إلى آخر قصته معه فهكذا في " الموطأ " : بصرة بن أبي بصرة لم يختلف عن مالك في ذلك ، ولا عن يزيد بن الهادي فيما علمت .

6056 - وأما غير مالك وغير شيخه يزيد بن الهادي فإنهم يقولون في هذا الحديث : فلقيت أبا بصرة الغفاري .

6057 - وأبو بصرة اسمه جميل بن بصرة على اختلاف عنه قد ذكرته عند ذكري له في كتاب الصحابة .

6058 - وروى القعنبي عن الدراوردي ، عن زيد بن أسلم ، عن المقبري ، عن أبي هريرة أنه خرج إلى الطور يصلي فيه ثم أقبل ، فلقي جميل بن بصرة [ ص: 99 ] الغفاري ، فذكر الحديث على ما ذكرناه في " التمهيد " من طرق .

6059 - وفي قول عبد الله بن سلام : " كذب كعب " ، ثم قال : صدق كعب دليل على ما كان القوم عليه من إنكار ما يجب إنكاره ، والإذعان إلى الحق ، والرجوع إليه والاعتراف به .

6060 - ومعنى قوله : كذب كعب أي غلط كعب ، وكذلك هو معروف للعرب في أشعارها ومخاطباتها .

6061 - فمن ذلك قول أبي طالب : كذبتم وبيت الله يبزى محمد ولما نطاعن دونه ونناضل

6062 - ألا ترى أن هذا ليس من باب الكذب الذي هو ضد الصدق ؟ إنما هو من باب غلط الإنسان . فيما يظنه فكأنه قال : كذبكم ظنكم .

6063 - ومثل هذا قول زفر بن الحارث العبسي : كذبتم وبيت الله لا تقتلونه ولما يكن يوم أغر محجل 6064 - وقال بعض شعراء همدان :

كذبتم وبيت الله لا تأخذونها     مراغمة ما دام للسيف قائم

6065 - ومن هذا ما رواه حماد بن زيد عن أيوب ، قال : سألت سعيد بن جبير عن الرجل يأذن لعبده في التزويج : بيد من الطلاق ؟ قال : بيد العبد . قال : إن جابر بن زيد يقول : بيد السيد . قال : كذب جابر .

6066 - ومن هذا قول عبادة : كذب أبو محمد .

[ ص: 100 ] 6067 - فمعنى قول عبد الله بن سلام : كذب كعب : أي أخطأ ظنه ، وقوله : صدق كعب : أي أصاب . 6068 - وفي قول عبد الله بن سلام : قد علمت أي ساعة هي - دليل على أن للعالم أن يقول : قد علمت كذا وأنا أعلم كذا ، إذا لم يكن على سبيل الفخر وما الفخر بالعلم إلا حديث بنعمة الله .

6069 - وفي قول أبي هريرة : أخبرني بها ، ولا تضن علي - أي لا تبخل علي - دليل على ما كان القوم عليه من الحرص على العلم والبحث عنه .

6070 - وفي مراجعة أبي هريرة لعبد الله بن سلام حين قال : هي آخر ساعة من يوم الجمعة ، واعتراضه عليه بأنها ساعة لا يصلى فيها لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يوافقها عبد مؤمن وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه " دليل على إثبات المعارضة والمناظرة وطلب الحجة وموضع الصواب .

6071 - وفي إدخال عبد الله بن سلام عليه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة " وإذعان أبي هريرة إلى ذلك - دليل واضح على ما كان عليه القوم من البصر بالاحتجاجات ، والاعتراضات ، والإدخال ، والإلزامات في المناظرة ، وهذا سبيل أهل العلم .

6072 - وعن ابن عباس مثل قول عبد الله بن سلام في ذلك سواء .

6073 - وقد ذكرنا كل ذلك في " التمهيد " والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية