الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1854 [ ص: 331 ] ( 5 ) باب ما جاء فيما يخاف من اللسان

1860 - مالك عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من وقاه الله شر اثنين ولج الجنة " فقال رجل : يا رسول الله لا تخبرنا ، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال مثل مقالته الأولى ، فقال له الرجل : لا تخبرنا يا رسول الله ، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك أيضا ، فقال الرجل : لا تخبرنا يا رسول الله ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك أيضا ، ثم ذهب الرجل يقول مثل مقالته الأولى فأسكته رجل إلى جنبه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من وقاه الله شر اثنين ولج الجنة ، ما بين لحييه وما بين رجليه ، ما بين لحييه وما بين رجليه ، ما بين لحييه وما بين رجليه " .


41345 - قال أبو عمر : هكذا قال يحيى في هذا الحديث ، عن مالك : " لا تخبرنا " على لفظ النهي ثلاث مرات ، فأعاد الكلام أربع مرات ، وتابعه ابن القاسم ، وطائفة من رواة " الموطأ " على قوله : لا تخبرنا على النهي ، إلا أن إعادة الكلام عند ابن القاسم ثلاث مرات .

41346 - وقال القعنبي فيه : ألا تخبرنا ، على لفظ العرض والإغراء والحث ، [ ص: 332 ] وأعاد الكلام ثلاث مرات ، وكلهم قال فيه : ما بين لحييه وما بين رجليه ، ثلاث مرات ، ما أظن تكرير الكلام في رواية من رواه على لفظ النهي إلا حرصا من القائل أن يستخرج ذلك المبهم الذي أشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله : " من وقاه الله شر اثنين " ، ولم يذكرهما ، ولو شاء لقال : من وقاه الله شر لسانه ، وفرجه ، ولكنه لما أبهم ذلك ، وأجمله أراد القائل بقوله : لا تخبرنا ، بأيهما ، فقلنا نذكرهما أو نعلمهما بعضنا ، أو نحو هذا ، والله أعلم .

41347 - وأما من رواه : ألا تخبرنا يا رسول الله فيدل أيضا على أنه لم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إخبارهم بها ، ليعلم كيف فهمهم لها ، وهو معنى متقارب ، وإن اختلف اللفظ فيه .

41348 - وليس عند ابن بكير هذا الحديث في شيء من " الموطأ " ولا عنده من الأربعة الأبواب إلا باب واحد ; ترجمته : باب ما يكره من الكلام ، أورد فيه الأحاديث المذكورة في هذه الأبواب الأربعة إلا هذا الحديث ، فإنه ليس عنده ، ولم يختلف على مالك في إرسال هذا الحديث .

41349 - وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه من وجوه من حديث سهل بن سعد ، ومن حديث أبي موسى ، ومن حديث أبي هريرة ، ومن حديث جابر ، رواه معقل [ ص: 333 ] بن عبيد الله ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من ضمن لي ما بين لحييه ، وما بين رجليه ، ضمنت له الجنة " .

41350 - وحديث سهل بن سعد رواه عمر بن علي المقدمي ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من يتكفل لي بما بين رجليه ، وما بين لحييه أضمن له الجنة " .

41351 - ورواه محمد بن عجلان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من وقاه الله شر اثنين ، دخل الجنة ; شر ما بين لحييه ، وشر ما بين رجليه " .

41352 - وقد ذكرت أسانيد هذه الأحاديث كلها في " التمهيد " .

41353 - وفي هذا الحديث دليل على أن أكبر الكبائر إنما هي من الفم والفرج ، وما بين اللحيين الفم ، وما بين الرجلين الفرج .

41354 - ومن الفم ما يتولد من اللسان ، وهو كلمة الكفر ، وقذف المحصنات ، [ ص: 334 ] وأخذ أعراض المسلمين ، ومن الفم أيضا شرب الخمر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ظلما .

41355 - ومن الفرج الزنا ، واللواط ، ومن اتقى ما يأتي من اللسان والفرج ، فأحرى أن يتقي القتل ، والله أعلم .

41356 - والكبائر كثيرة إلا أن الذي يعتمد عليه فيها ما جاء منصوصا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو المبين عن الله - تعالى - مراده من قوله - تعالى - ذكره : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه [ النساء : 31 ] .

41357 - فمن ذلك حديث ابن مسعود ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " أكبر الكبائر أن تجعل لله ندا وهو خلقك ، وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك ، وأن تزاني حليلة جارك " .

41358 - وقد روي عن ابن مسعود ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " أكبر الكبائر الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق " .

41359 - ومنها حديث ابن عمر ; أنه سئل عن الكبائر ، فقال : سمعت [ ص: 335 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " هن تسع ; الشرك بالله ، وقذف المحصنات ، وقتل النفس المؤمنة ، والفرار من الزحف ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين ، والإلحاد بالبيت الحرام ، قبلتكم أحياء وأمواتا " .

41360 - وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، روي عنه من وجوه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، في بعضها زيادة ألفاظ على بعض ، ويجمعها كلها الكبائر ، الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله ، وشرب الخمر ، وعقوق الوالدين ، واليمين الغموس التي يقتطع بها حق مال امرئ مسلم وهو كاذب .

41361 - وفي بعضها عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ومن الكبائر أن يسب الرجل والديه " ; يعني يتسبب لهما وهذا عندي داخل في عقوقهما .

41362 - وحديث أبي بكرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيه : قتل النفس ، وشهادة الزور ، والشرك ، وعقوق الوالدين .

41363 - وحديث أنس ، عن النبي صلى الله - صلى الله عليه وسلم - مثله ، إلا أنه لم يذكر شهادة الزور .

41364 - وحديث عمران بن حصين ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يذكر فيه الزنا ، [ ص: 336 ] والسرقة ، وشرب الخمر ، ثم قال : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ " قالوا : بلى ، قال : " شهادة الزور " .

41365 - وحديث خريم بن فاتك ، قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح يوما ، فلما انصرف قام قائما ، فقال : عدلت شهادة الزور ، بالإشراك بالله ، ثم تلا : فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور [ الحج : 30 ] .

41366 - وروى وائل بن ربيعة ، عن ابن مسعود ، أنه سمعه يقول : عدلت شهادة الزور بالشرك بالله ، ثم قرأ : فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور [ الحج : 30 ] .

41367 - وروى محارب بن دثار ، عن ابن عمر ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " شاهد الزور ; لا تزول قدماه حتى تجب له النار " .

41368 - وفي حديث ابن عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وحديث أبي أيوب الأنصاري ، وحديث عبد الله بن أنس ، فيها كلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " الفرار من الزحف " .

41369 - وفي حديث أبي أيوب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ومنع ابن السبيل " يعني ما يرد رمقه ، ويحبس عليه نفسه من جوع أو عطش .

41370 - وروى أبو هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكبائر ، أنها السبع [ ص: 337 ] الموبقات : " الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، [ والزنا ] ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وشهادة الزور ، وقذف المحصنات " .

41371 - وأجمع علماء المسلمين ; أن الجور في الحكم من الكبائر ; للوعيد الوارد فيه ، قال الله - عز وجل - وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا [ الجن : 15 ] والقاسط الجائر ، والمقسط العادل ; وقال الله - عز وجل - ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ المائدة : 44 ] ، يعني أهل الكتاب ، ثم قال : فأولئك هم الفاسقون [ المائدة : 47 ] ، فأولئك هم الظالمون [ المائدة : 45 ] .

41372 - والأحاديث في الإمام الجائر كثيرة ، والوعيد فيها شديد .

41373 - وروي عن ابن عباس ، أن الإضرار في الوصية من الكبائر ، وذلك - والله أعلم - لأن الوعيد أتى منوطا بذكر ذلك في القرآن ; قال الله - عز وجل - غير مضار وصية من الله والله عليم حليم . تلك حدود الله [ النساء : 12 - 13 ] ، ثم ذكر الوعيد بإثر ذلك في من تعدى حدود الله .

41374 - ومنهم من يرفع حديث ابن عباس ، في الإضرار بالوصية إلى [ ص: 338 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - .

41375 - وقد ذكرت أسانيد هذه الأحاديث كلها في " التمهيد " ، والحمد لله .

41376 - وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من مرسل الحسن وغيره ، " إن أكبر الكبائر أن تقاتل أهل صفقتك وتبدد سنتك ، وتفارق أمتك " ، فسره أبو عبيد ; بأن قال : يعاهده ثم يغدره ، فيقتله أو يقاتله ، أو يرجع أعرابيا بعد هجرته ، أو يلحق بالمشركين .

41377 - وتجتمع من هذه الأحاديث كلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعن كتاب الله - تعالى - عدد الكبائر ; سبع عشرة كبيرة ، وذلك أتم وأعم من حديث هذا الباب ، فيما بين لحييه ، ورجليه ، لقول الله - عز وجل - : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما [ النساء : 31 ] والمدخل الكريم الجنة .

41378 - ومن هذا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من ضمن لي ما بين لحييه ، وما بين رجليه ضمنت له الجنة " .

التالي السابق


الخدمات العلمية