الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1863 [ ص: 357 ] ( 8 ) باب ما جاء في إضاعة المال وذي الوجهين

1869 - مالك عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله يرضى لكم ثلاثا ، ويسخط لكم ثلاثا ، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ، ويسخط لكم قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال " .


41443 - هكذا روى يحيى هذا الحديث مرسلا ، وتابعه القعنبي ، وابن وهب ، وابن القاسم ، ومعن بن موسى ، ومحمد بن المبارك الصوري .

41444 - ورواه ابن بكير ، وأبو المصعب ، ومصعب الزبيري ، وعبد الله بن يوسف التنيسي ، وابن عفير ، وأكثر الرواة عن مالك عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، مسندا .

41445 - وكذلك رواه جماعة عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة مسندا .

[ ص: 358 ] 41446 - وعند مالك فيه إسناد آخر ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة .

41447 - وهو غريب ، قد ذكرته في " التمهيد " من طرق عنه .

41448 - قال أبو عمر : في هذا الحديث الأمر بالإخلاص في العبادة والتوحيد ، والحض على الاعتصام بحبل الله .

41449 - وقد اختلف في معنى حبل ; فقيل : القرآن . وقيل : الجماعة والخلافة ، والمعنى في ذلك متداخل ; لأن كتاب الله يأمرنا بالائتلاف وينهى عن الفرقة والاختلاف .

41450 - وقد ذكرنا في " التمهيد " من قال من العلماء بالقولين جميعا .

41451 - وقد روي عن ابن مسعود القولان جميعا .

41452 - روى منصور ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، في قوله : واعتصموا بحبل الله جميعا [ آل عمران : 103 ] قال : حبل الله هو الصراط المستقيم ، كتاب الله .

41453 - وروى أبو حصين ، عن الشعبي ، عن ثابت بن قطبة ، قال : قال عبد الله بن مسعود في خطبته : أيها الناس ، عليكم بالطاعة والجماعة ; فإنها حبل [ ص: 359 ] الله الذي أمر ، وأن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة .

41454 - قال أبو عمر : هذا التأويل أظهر في معنى حديث هذا الباب . والله أعلم .

41455 - قال ابن المبارك - رحمه الله :

إن الجماعة حبل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى لمن دانا     لولا الخلافة لم تؤمن لنا سبل
وكان أضعفنا نهبا لأقوانا



41456 - في أبيات قد ذكرتها في " التمهيد " .

41457 - وفي حديث زيد بن ثابت ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ثلاث لا يغل عليهن ; قلب امرئ مسلم ، إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم الجماعة ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم " .

41458 - وقد روى هذا اللفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جبير بن مطعم ، وعبد الله بن مسعود ، وأنس بن مالك ، كما رواه زيد بن ثابت .

41459 - وقد ذكرنا أحاديثهم من طرق ، في كتاب " بيان العلم وفضله " ، [ ص: 360 ] وفي كتاب " التمهيد " أيضا ، في معنى قوله : " ثلاث لا يغل عليهن ; قلب امرئ مسلم " . أي لا يكون القلب المعتقد لهن غليلا .

41460 - وفي هذا الباب حديث عجيب بمعنى حديث سهيل ، رواه الحارث الأشعري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قد ذكرته بطوله في " التمهيد " .

41461 - وروى ابن عباس ، وأبو ذر ، وأبو هريرة ، بمعنى واحد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " من خرج عن الطاعة ، وفارق الجماعة ، فمات على ذلك ، فميتته جاهلية " .

41462 - ومن حديث ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من نزع يدا من طاعة ، ومات ولا طاعة عليه ، كانت ميتته ضلالة ، ولا حجة له " .

41463 - ومن حديث النعمان بن بشير ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " الجماعة رحمة ، والفرقة عذاب " .

[ ص: 361 ] 41464 - والآثار في هذا المعنى كثيرة جدا ، وقد ذكرت كثيرا منها في " التمهيد " ، وتكلمت بما أحضرني في معانيها .

41465 - وأما مناصحة ولاة الأمر ، فلم يختلف العلماء في وجوبها ; إذا كان السلطان يسمعها ويقبلها ، ولما رأى العلماء أنهم لا يقبلون نصيحا ، ولا يريدون من جلسائهم إلا ما وافق هواهم ، زاد البعد عنهم ، والفرار منهم .

41466 - قال حذيفة بن اليمان : إذا كان والي القوم خيرا منهم ، لم يزالوا في عليا ، وإذا كان واليهم شرا منهم ، لم يزدادوا إلا سفالا .

41467 - حدثنا ابن خليفة ، قال : حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الحميد ، قال : حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن وهب ، عن أنس بن مالك ، قال : كان الأكابر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهوننا عن سب الأمراء .

41468 - وبه عن يحيى بن يمان ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، قال : ما سب قوم أميرهم ، إلا حرموا خيرهم .

[ ص: 362 ] 41469 - وقد أشبعنا معنى الطاعة والنصيحة للولاة ، وكيف العمل في ذلك ، عند العلماء ، وما يجب للإمام على الرعية من ذلك ، ويجب عليه ويلزمه لهم ، بالآثار المرفوعة ، وأقاويل السلف ، في " التمهيد " ، والحمد لله ، وأما قوله : " ويكره لكم قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال " .

41470 - فالمعنى في : " قيل وقال - والله أعلم - الخوض في أحاديث الناس التي لا فائدة فيها ، وإنما جلها الغلط ، وحشو ، وغيبة ، وما لا يكتب فيه حسنة ، ولا سلم القائل والمستمع فيه من سيئه .

41471 - قال الشاعر :

ومن لا يملك الشفتين يسحق     بسوء اللفظ من قيل وقال



41472 - وقال أبو العتاهية :

عليك ما يعنيك من كل ما ترى     وبالصمت إلا عن جميل تقوله
تزود من الدنيا بزاد من التقى     فكل بها ضيف وشيك رحيله


41473 - وأما قوله : " وإضاعة المال " ، فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال :

41474 - أحدها : أن المال أريد به ملك اليمين من العبيد والإماء والدواب ، وسائر الحيوان الذي في ملكه ، أن يحسن إليه ولا يضيعهم فيضيعوا .

[ ص: 363 ] 41475 - وهو قول السري بن إسماعيل ، عن الشعبي .

41476 - واحتج من ذهب هذا المذهب بحديث أنس ، وأم سلمة ، أن عامة وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حين حضرته الوفاة ، كانت قوله : " الله ، الله ، الصلاة ، الصلاة ، وما ملكت أيمانكم " .

41477 - والقول الثاني : إضاعة المال : ترك إصلاحه ، والنظر فيه ، وتنميته وكسبه .

41478 - واحتج من قال بهذا القول - قيس بن عاصم المنقري لبنيه ، حين حضرته الوفاة : يا بني ، عليكم بكسب المال واصطناعه ، فإن فيه منبهة للكريم ، ويستغنى به عن اللئيم .

41479 - ويقول عمرو بن العاص ، في خطبته حيث قال : يا معشر الناس ، إياكم وخلالا أربعة تدعو إلى النصب بعد الراحة ، وإلى الضيق بعد السعة ، وإلى المذلة بعد العز ، إياكم وكثرة العيال ، وإخفاض الحال ، والتضييع للمال ، والقيل والقال في غير درك ولا نوال .

41480 - القول الثالث : إضاعة المال : إنفاقه في غير حقه من الباطل والإسراف والمعاصي . وهذا هو الصواب عند ذوي الدين والألباب .

41481 - روى ابن وهب ، قال : حدثنا إبراهيم بن نشيط ، قال : سألت عمر مولى عفرة ، عن الإسراف ما هو ؟ فقال : كل شيء أنفقته في غير طاعة الله ، [ ص: 364 ] وفي غير ما أباحه الله ، فهو إسراف وإضاعة للمال .

41482 - وروى أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن محمد بن سوقة ، عن سعيد بن جبير ، أنه سأله رجل عن إضاعة المال ، فقال : أن يرزقك الله رزقا فتنفقه في ما حرم الله عليك .

41483 - وهكذا قال مالك - رحمه الله - وأما قوله : " وكثرة السؤال " : ففيه قولان : أحدهما : كثرة السؤال عن المسائل النوازل المعضلات ، في معاني الديانات . والآخر : كثرة السؤال في الاستكثار من المال والكسب بالسؤال .

41484 - وأما الوجه الأول ، فقد أوضحناه بالآثار في كتاب " العلم " ، وسيأتي معنى السؤال للمال في موضعه من هذا الكتاب بعد ، إن شاء الله - تعالى - .

41485 - وقد روى ابن وهب ، وابن القاسم ، وأشهب ، بمعنى واحد ، عن مالك ، أنه قال : أما نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كثرة السؤال ، فلا أدري أهو الذي أنهاكم عنه من كثرة المسائل فقد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثرة المسائل ، وعابها ، أم هو مسألتك الناس .

41486 - قال أبو عمر : كان أبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وجماعة من [ ص: 365 ] السلف يكرهون السؤال في العلم ، عن ما لم ينزل ، ويقولون : إن النازلة إذا نزلت المسئول عنها ، وكانوا يجعلون الكلام في ما لم ينزل تكلفا ، ويتلو بعضهم قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ ص : 86 ] .

41487 - حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري ، قال : سمعت مالك بن أنس يقول : أدركت أهل هذا البلد وما عندهم علم غير الكتاب والسنة ، فإذا نزلت نازلة ، جمع لها الأمير من حضر من العلماء ، فما اتفقوا عليه من شيء أنفذه ، وأنتم تكثرون من المسائل ، وقد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها .

41488 - قال أبو عمر : من نزل النوازل من الفقهاء وأجاب فيها ، كأبي حنيفة ، وربيعة ، وعثمان البتي ، ومن جرى مجراهم ممن استعمل الرأي ، قالوا : رأينا لمن بعدنا خير من رأيهم لأنفسهم .

41489 - وقد روي هذا عن الحسن - رحمه الله - .

41490 - وأما صعاب المسائل وما عسى ألا ينزل ، فهو باب إلى النظر ، وإلى التكسب ، وإلى التحفظ من الخصم ومخادعته ، فهذا مكروه عند جميعهم .

41491 - حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا إبراهيم بن موسى ، قال : حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : [ ص: 366 ] 41492 - حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قالا : حدثنا عيسى بن يونس ، عن الأوزاعي ، عن عبد الله بن سعد ، عن الصنابحي ، عن معاوية بن أبي سفيان ، قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأغلوطات .

41493 - قال الأوزاعي : يعني صعاب المسائل .

41494 - وحدثنا أحمد بن مطرف ، قال : حدثني سعيد بن عثمان ، قال : حدثني نصر بن مرزوق ، قال : حدثني أسيد بن موسى ، قال : حدثني شريك ، عن ليث ، عن طاوس ، عن ابن عمر ، قال : لا تسألوا عما لم يكن ، فإني سمعت عمر يلعن من سأل عما لم يكن .

41495 - قال أبو عمر : هذا باب قد أوضحناه وبسطناه بالآثار عن السلف في كتاب " بيان العلم وفضله " بما فيه شفاء للناظر فيه ، والحمد لله .

41496 - وأما قوله الثاني ، فكأنه أقرب إلى معنى إضاعة المال ، وهو سؤال الناس أموالهم ، والتكسب بالمسألة ، فهذا مكروه عند جماعة العلماء ، وسنبين ذلك في ما بعد إن شاء الله .

41497 - ومما يدل على أن السؤال في المال أقرب وأشبه لمعنى الحديث ، ما رواه المغيرة بن شعبة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

41498 - أخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى ، قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا أبي ، قال : [ ص: 367 ] حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا غير واحد منهم ; منهم مغيرة ، عن الشعبي ، عن وراد كاتب المغيرة بن شعبة ، أن معاوية كتب إلى المغيرة : اكتب لي بحديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكتب إليه المغيرة : إنني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عند انصرافه من الصلاة : " لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير " ، ثلاث مرات ، وكان ينهى عن قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال ، ومنع وهات ، وعقوق الأمهات ، ووأد البنات .

التالي السابق


الخدمات العلمية