الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
248 217 - وأما حديثه في هذا الباب عن صفوان بن سليم قال مالك : لا أدري أعن النبي - عليه السلام - أم لا أنه قال : " من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر طبع الله على قلبه " .


6140 - فإن هذا الحديث مروي عن النبي - عليه السلام - من وجوه .

6141 - منها حديث أبي الجعد الضمري ، وكانت له صحبة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من ترك الجمعة ثلاث مرات " . ومنهم من يقول فيه : ثلاث جمع . " تهاونا طبع الله على قلبه " .

6142 - وهو حديث مدني رواه محمد بن عمر بن علقمة ، عن عبيدة بن سفيان ، عن أبي الجعد الضمري ، عن النبي ، عليه السلام .

[ ص: 116 ] 6143 - وقد رواه بعضهم عن محمد بن عمر ، وعن أبي سلمة ، عن أبي هريرة عن النبي والأول عندي أولى بالصواب .

6144 - وقد ذكرناه بالأسانيد في " التمهيد " .

6145 - وحديث أبي قتادة أيضا مدني عن النبي - عليه السلام - في معناه رواه الدراوردي ، وسليمان بن بلال ، عن أسيد بن أبي أسيد البراد ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من ترك الجمعة ثلاثا - من غير عذر - طبع الله على قلبه " .

6146 - قال أبو عمر : يرويه غير سليمان والدراوردي ، عن أسيد بن أبي أسيد ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن جابر ، ورواية سليمان والدراوردي أولى بالصواب إن شاء الله .

6147 وفيه : " من غير ضرورة " .

6148 - وقد ذكرنا في " التمهيد " معنى الضرورة ، وما هي ، وما الذي يتخلف له الصحيح عن الجمعة ، وأتينا بما للعلماء في ذلك هنالك والحمد لله .

[ ص: 117 ] 6149 - وأما التشديد في تركها فروي عن النبي - عليه السلام - من حديث ابن عمر ، وحديث ابن عباس ، وحديث أبي هريرة أن النبي - عليه السلام - قال : " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعة أو ليختمن الله على قلوبهم ، ثم ليكونن من الغافلين " .

6150 - وقد ذكرتها بأسانيدها في " التمهيد " .

6151 - والختم على القلوب مثل الطبع عليها .

وهذا وعيد شديد ; لأن من طبع على قلبه وختم عليه لم يعرف معروفا ولم ينكر منكرا .

6152 - وقد قال عبد الله بن مسعود ، والحسن البصري : إن الصلاة التي أراد النبي - عليه السلام - أن يحرق على من تخلف عنها - هي الجمعة .

6153 - ذكره ابن أبي شيبة عن الفضل بن دكين ، عن زهير ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، وعن عفان ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن وهي عن سفيان الثوري وابن المبارك ومروان بن معاوية ، [ ص: 118 ] عن عوف الأعرابي ، عن سعيد بن أبي الحسن ، عن عبد الله بن عباس أنه قال : " من ترك ثلاث جمعات متواليات - من غير عذر - فقد نبذ الإسلام وراء ظهره " .

6154 - وروى جرير وعبد الله بن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد أن رجلا سأل ابن عباس شهرا كل يوم يسأله عنها : ما تقول في رجل يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يشهد الجمعة ولا الجماعة ؟ فكان ابن عباس يقول في ذلك كله : صاحبك في النار .

6155 - وهذا يحتمل أن يكون ابن عباس عرف حال المسئول عنه باعتقاد مذهب الخوارج في ترك الصلاة مع الجماعة والتهمة باستحلال دماء المسلمين وتكفيرهم ، وأنه لذلك ترك الجمعة والجماعة معهم ، فأجابه بهذا الجواب ; تغليظا في سوء مذهبه .

6156 - وقد ذكرنا في " التمهيد " حديث علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبهم فقال في خطبته : " إن الله فرض عليكم الجمعة في يومي هذا وفي عامي هذا ، فمن تركها - جحودا بها واستخفافا لحقها - فلا جمع الله عليه شمله ، ولا بارك له في أمره . ألا ولا صلاة له ، ولا زكاة له ، ولا صوم له ، ولا حج له إلا أن يتوب . فمن تاب تاب الله عليه " في حديث طويل ذكرته من طرق في " التمهيد " وقد بان فيه أن الوعيد المذكور إنما هو لمن تركها جحودا بها واستخفافا بحقها .

6157 - وفي قوله تعالى : [ ص: 119 ] " ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله " ( الجمعة : 9 ) - كفاية في وجوب الجمعة على من سمع النداء .

6158 - وأجمع علماء الأمة أن الجمعة فريضة على كل حر ، بالغ ، ذكر ، يدركه زوال الشمس في مصر من الأمصار وهو من أهل المصر ، غير مسافر .

6159 - وأجمعوا أنه من تركها وهو قادر على إتيانها ممن تجب عليه أنه غير كافر بفعله ذلك ، إلا أن يكون جاحدا لها مستكبرا عنها .

6160 - وأجمعوا أنه بتركها ثلاث مرات - من غير عذر - فاسق ساقط الشهادة .

6161 - وقيل ذلك فيمن تركها عامدا مرة واحدة من غير تأويل ولا عذر .

6162 - فإن قال بعض أهل الجهل : إنه روى ابن وهب ، عن مالك أن شهودها سنة فالجواب عن ذلك : أن شهودها سنة على أهل القرى الذين اختلف السلف والخلف في إيجاب الجمعة عليهم ، وأما أهل الأمصار فلا .

6163 - ونحن نورد ذلك على نصه والرواية في سماع ابن وهب ، عن مالك ، قال : قال لي مالك : كل قرية متصلة البيوت وفيها جماعة من المسلمين فينبغي لهم أن يجمعوا إذا كان إمامهم يأمرهم أن يجمعوا ، أو ليؤمروا رجلا فيجمع بهم ; لأن الجمعة سنة .

6164 - هذه رواية ابن وهب التي شبه بها على من لا علم له . ولم يعلم أن من أهل العلم جماعة يقولون : إنه لا جمعة إلا في مصر جامع .

6165 - وفي قول مالك في رواية ابن وهب هذه : إذا كان إمامهم يأمرهم دليل على أن وجوب الجمعة عنده في القرية الكبيرة التي ليست بمصر إنما هو [ ص: 120 ] اجتهاد منه سنة وتشبيه لها بالمصر المجتمع على إيجاب الجمعة فيه .

6166 - ومسائل الاجتهاد لا تقوى قوة توجب القطع عليها ، وقد أخبرتك بالإجماع القاطع للعذر وعليه جماعة فقهاء الأمصار .

6167 - فلهذا أطلق مالك أنها سنة في قرى البادية ، لما رأى من العمل بها ببلده ، وإن كان فيها خلاف معلوم عنده وعند غيره .

6168 - وقد ذكرنا الاختلاف في التجميع في القرى الصغار والكبار في " التمهيد " .

6169 - على أنه يحتمل أن يكون قول مالك : سنة ، أي طريقة الشريعة التي سلكها المسلمون ولم يختلفوا فيها ، هذا لو أراد الجمعة بالأمصار .

6170 - وقال مكحول : السنة سنتان : سنة فريضة وسنة غير فريضة .

6171 - فالسنة الفريضة الأخذ بها فريضة ، وتركها كفر ، والسنة غير الفريضة الأخذ بها فضيلة ، وتركها إلى غير حرج .

6172 - وقد روى ابن وهب ، عن مالك ، قال : سمعت بعض أهل العلم يقول : كان الناس في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزلون من العوالي يشهدون الجمعة مع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .

6173 - قال : والعوالي من المدينة على ثلاثة أميال أو نحو ذلك .

6174 - قال ولم يبلغني أن شهودها يجب على أحد أبعد من ذلك .

6175 - قال أبو عمر : هذا يدل على أنها واجبة على هؤلاء عنده وعلى من هو أقرب إلى المصر منهم .

6176 - وأما المصر فيه عنده واجبة على أهله وعلى كل من سمع [ ص: 121 ] النداء ، أو كان بمكان يسمع منه أو رأس ثلاثة أميال أو أدنى .

6177 - ومن كان أبعد من ذلك فهو في سعة إن شاء الله .

6178 - وقد روى ابن القاسم ، عن مالك أنه قال في القرى التي تجمع فيها الجمعة ، ولا يكون لهم وال ، قال : ينبغي أن يقدموا رجلا فيخطب بهم ويصلي .

6179 - قال ابن القاسم : قال لي مالك : إن لله فرائض في أرضه فرائض لا يسقطها الوالي .

6180 - قال ابن القاسم : يريد الجمعة : فهذه الرواية هي التي عليها جماعة العلماء بالفقه والحديث في جميع الأمصار ، والحمد لله ، ولم يختلفوا أن الجمعة واجب شهودها على كل بالغ من الرجال حر ، إذا كان في مصر جامع ، هذا إجماع من علماء السلف والخلف .

6181 - واختلفوا في القرى الصغار في أنفسها ، وفي المسافة التي منها يجب قصد المصر للجمعة من البوادي على ما قد ذكرناه في " التمهيد " ، ونذكر هاهنا اختلاف فقهاء الأمصار .

[ ص: 122 ] 6182 - قال مالك : من كان بينه وبين الجمعة ثلاثة أميال فعليه إتيان الجمعة . وهو قول الليث ، والشافعي ، لأنه تجب على أهل المصر وعلى من كان خارج المصر من موضع يسمع فيه النداء ، والنداء يسمع بالصوت الندي من ثلاثة أميال فيما ذكروا .

6183 - وروى علي بن زياد ، عن مالك ، قال : عزيمة الجمعة على من كان من المصر بموضع يسمع فيه النداء ، وذلك ثلاثة أميال .

6184 - وأما اختلافهم في العدد الذي تصح به الجمعة : فأما مالك فلم [ ص: 123 ] يحد فيه حدا وراعى القرية المجتمعة المتصلة البيوت .

6185 - قال ابن القاسم : كالروحاء وشبهها فإذا كانت كذلك لزمتهم الجمعة .

6186 - وقال مطرف وابن الماجشون : تجب الجمعة على أهل ثلاثين بيتا فما فوق ذلك ، بوال وبغير وال .

6187 - وعن عمر بن عبد العزيز : خمسين رجلا .

6188 - وقال أبو حنيفة والليث : ثلاثة سوى الإمام .

6189 - وقال أبو يوسف : اثنان سوى الإمام .

6190 - وبه قال الثوري وداود .

6191 - وقال الحسن بن صالح والطبري : إن لم يحضر مع الإمام إلا رجل واحد يخطب عليه وصلى الجمعة أجزتهما .

6192 - واعتبر الشافعي وأحمد بن حنبل أربعين رجلا .

6193 - وعن أبي هريرة : مائتا رجل .

6194 - وقالت طائفة : اثنا عشر رجلا ; لأن الذين بقوا مع النبي - عليه السلام - فأقام الجمعة بهم إذ تركوه قائما كانوا اثني عشر رجلا .

6195 - ولكل قول وجه يطول الاحتجاج له وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية