الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
260 230 - وفي هذا الباب حديث مالك ، عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع امرأة من الليل تصلي ، فقال : " من هذه ؟ " فقيل : الحولاء بنت تويت ، لا تنام الليل . فكره ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى عرفت الكراهية في وجهه ، ثم قال : " إن الله [ ص: 209 ] لا يمل حتى تملوا ، اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة " .


6458 - وقد ذكرنا في " التمهيد " من أسنده ووصله وهو حديث صحيح مسند .

6459 - والحولاء امرأة قرشية من بني أسد بن عبد العزى بن قصي ، والتويتات في بني أسد .

[ ص: 210 ] 6460 - وقد أوضحنا ذلك عند ذكرها في كتاب الصحابة .

6461 - وأما قوله : " إن الله لا يمل حتى تملوا " فمعناه عند أهل العلم : إن الله لا يمل من الثواب والعطاء على العمل حتى تملوا أنتم العمل وتقطعونه فينقطع عنكم ثوابه ، ولا يسأم من أفضاله عليكم إلا بسآمتكم عن العمل .

6462 - وأنتم متى تكلفتم من العمل والعبادة ما لا تطيقون وأسرفتم لحقكم الملل وضعفتم عن العمل ، فانقطع عنكم الثواب بانقطاع العمل .

6463 - يحضهم بهذا المعنى على القليل الدائم ، ويخبرهم أن النفوس لا تحتمل الإسراف عليها ، وأن ذلك سبب إلى قطع العمل .

6464 - ومن هذا حديث ابن مسعود قال : كان النبي يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا .

[ ص: 211 ] 6465 - ومنها أيضا قوله : " لا تشادوا الدين فإنه من غالب الدين يغلبه الدين " .

6466 - ومنه الحديث : " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ، فإن المنبت لا يقطع أرضا ولا يبقي ظهرا " .

6467 - وقال - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو بن العاص - وكان يصوم النهار ويقوم الليل - : " لا تفعل ، فإنك إذا فعلت نفهت نفسك " .

6468 - أي أعيت وكلت ، يقال للمعيي منفه ونافه ، وجمع نافه : نفه .

6469 - كذلك فسره أبو عبيد ، عن أبي عبيدة وأبي عمرو ، قال الأصمعي : الإيغال : السير الشديد ، وأما الوغول فهو الدخول .

[ ص: 212 ] 6470 - وقد جعل مطرف بن عبد الله بن الشخير - رحمه الله - الغلو [ ص: 213 ] في أعمال البر سيئة ، والتقصير سيئة ، فقال : الحسنة بين السيئتين .

6471 - وأما لفظه في قوله : " إن الله لا يمل حتى تملوا " فهو لفظ خرج على مثال لفظ ، ومعلوم أن الله عز وجل لا يمل سواء مل الناس أو لم يملوا ، ولا يدخله ملال في شيء من الأشياء جل عن ذلك وتعالى علوا كبيرا .

6472 - وإنما جاء لفظ هذا الحديث على المعروف من لغة العرب ; فإنهم إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ جوابا له أو جزءا ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفا له معناه .

6473 - ألا ترى إلى قوله عز وجل : وجزاء سيئة سيئة مثلها ( الشورى : 40 ) .

6474 - وقوله تعالى : " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " ( البقرة : 194 ( .

6475 - والجزاء لا يكون سيئة ، والقصاص لا يكون اعتداء ، لأنه حق وجب .

6476 - ومثل ذلك قول الله عز وجل : ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ( آل عمران : 54 ( 6477 - وقوله تعالى : " إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم " ( البقرة : 14 ) .

6478 - وقوله تعالى : إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا ( الطارق : 15 - 16 ( 6479 - وليس من الله مكر ولا هزو ولا كيد ، إنما هو جزاء مكرهم واستهزائهم وكيدهم ، فذكر الجزاء بمثل لفظ الابتداء لما وضع بحذائه وقبالته .

6480 - فكذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله لا يمل حتى تملوا " . أي من مل فقطع عمله انقطع عنه الجزاء .

[ ص: 214 ] 6481 - روى الأوزاعي وغيره عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خذوا من العمل قدر ما تطيقون ; فإن الله لا يمل حتى تملوا " .

6482 - قالت : وكان أحب العمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما داوم عليه صاحبه وإن قل .

6483 - وبعضهم يرويه : وكان أحب الصلاة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما داوم عليها صاحبها وإن قلت .

6484 - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى صلاة داوم عليها .

6485 - ثم قرأ أبو سلمة : " الذين هم على صلاتهم دائمون " ( المعارج : 23 ) .

6486 - وقد تقدم بعض القول في صلاة الليل ، وأن قول القائل بأنه فرض ولو كقدر حلب شاة ، قول متروك وشذوذ ، والعلماء على خلافه كلهم يقولون : إنه فضيلة لا فريضة ، ولو كان قيام الليل فرضا لكان مقدرا موقتا معلوما كسائر الفرائض .

6487 - وقد روى قتادة عن زرارة بن أوفى ، عن سعد بن هشام ، عن عائشة أنه قال لها : حدثيني عن قيام الليل . فقالت : ألست تقرأ سورة المزمل ؟ قلت : بلى . قالت : فإن أول هذه السورة نزلت فقام أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتفخت أقدامهم وحبست خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا ، ثم أنزل [ ص: 215 ] آخرها فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة .

6488 - ومن حديث أبي هريرة ، عن النبي أنه قال : " أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم ، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل " .

6489 - وقد ذكرنا إسناد هذا الحديث وما كان مثله من معاني هذا الباب في " التمهيد " .

التالي السابق


الخدمات العلمية