الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
265 235 - وأما حديثه عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي سلمة ، عن عائشة أنها قالت : ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا ، فلا تسل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ثلاثا ، قالت عائشة : فقلت : يا رسول الله ، أتنام قبل أن توتر ؟ فقال : يا عائشة ، إن عيني تنامان ولا ينام قلبي .


[ ص: 236 ] 6579 - وفي هذا الحديث البيان بأن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان وغيره كانت سواء .

6580 - وقد مضى القول في قيام رمضان .

6581 - وأكثر الآثار على أن صلاته كانت إحدى عشرة ركعة ، وقد روي ثلاث عشرة ركعة .

6582 - واحتج العلماء على أن صلاة الليل ليس فيها حد محدود ، والصلاة خير موضوع ، فمن شاء استقل ، ومن شاء استكثر .

6583 - وروى يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة كان يصلي ثمان ركعات وأربع ركعات ، ويوتر بركعة واحدة .

6584 - وروى الدراوردي ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن عائشة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ، تسعا قائما واثنتين جالسا واثنتين بين النداءين .

6585 - وحديث مالك أثبت من هذين الحديثين .

6586 - وأما قوله يصلي أربعا ثم يصلي ثلاثا .

6587 - فذهب قوم إلى أن الأربع لم يكن بينها سلام وكذلك الأربع بعدها .

6588 - وقال آخرون : لم يجلس إلا في آخر الأربع ، ثم في الأربع ، ثم أوتر بثلاث .

[ ص: 237 ] 6589 - وذهب فقهاء الحجاز وبعض أهل العراق إلى أنه كان يسلم في كل ركعتين منها ، على ظاهر قوله : " صلاة الليل مثنى مثنى " .

6590 - فمن ذهب إلى هذا تأول في قوله : يصلي أربعا ثم أربعا أي حسنهن وطولهن ورتل القرآن فيهن ، وكذلك أيضا فعل في الأربع بعدهن حسنهن وطولهن ، ثم الثلاث بعدهن لم يبلغ فيهن من الطول ذلك المبلغ لكنه سلم في كل ركعتين من صلاته تلك كلها .

6591 - فهذا معنى أربعا ثم أربعا ثم ثلاثا عند هؤلاء .

6592 - وحجتهم : صلاة الليل مثنى مثنى ، ولا يقال للظهر ولا للعصر مثنى وإن كان فيها جلوس .

6593 - واختصار اختلافهم في صلاة التطوع بالليل أن مالكا ، والشافعي ، وابن أبي ليلى ، وأبا يوسف ، ومحمدا قالوا في صلاة الليل : مثنى مثنى ، والحجة لهم ما قدمنا من تسليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته بالليل من كل ركعتين ، وقوله : " صلاة الليل مثنى مثنى " .

6594 - وذلك يقتضي الجلوس والتسليم في كل ركعتين .

6595 - وقال أبو حنيفة في صلاة الليل : إن شئت ركعتين ، وإن شئت أربعا ، وإن شئت ستا وثمانيا لا تسليم إلا في آخرهن .

6596 - وقال الثوري والحسن بن حيي : صل بالليل ما شئت بعد أن تقعد في كل ركعتين وتسلم في آخرهن .

6597 - وحجة هؤلاء ظواهر الأحاديث عن عائشة .

6598 - منها : حديثها هذا أربعا ، ثم أربعا ، ثم ثلاثا .

6599 - ومنها : ما رواه الأسود ، عن عائشة أنها قالت : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل تسع ركعات ، فلما أسن صلى سبع ركعات .

[ ص: 238 ] 6600 - وقال مسروق عنها : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بتسع فلما أسن أوتر بسبع .

6601 - ويحيى بن الجزار ، عن عائشة مثله على اختلاف عن يحيى في ذلك .

6602 - وروى ابن نمير ، ووهيب وطائفة عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ، يوتر منها بخمس لا يجلس في شيء من الخمس حتى يجلس في الآخرة منهن .

6603 - قال أبو عمر : أما حديث هشام بن عروة هذا فقد أنكره مالك ، وقال : مذ صار هشام بالعراق أتانا عنه ما لم نعرف منه .

[ ص: 239 ] 6604 - وأما سائر الأحاديث فمحتملة للتأويل ويقضي عليها قوله : " صلاة الليل مثنى مثنى " مع حديث ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة ويسلم من كل اثنتين .

6605 - وقد ذكرنا من روى عن ابن شهاب هذا الحديث كما وصفنا من ثقات أصحابه .

6606 - قال أبو عمر في معنى قوله أيضا في حديث هذا الباب أربعا ثم أربعا ثم ثلاثا وجه رابع ، وهو أنه كان ينام بعد الأربع ثم ينام بعد [ ص: 240 ] الأربع ، ثم يقوم فيوتر بثلاث .

6607 - واحتج من قال بذلك بحديث ابن أبي مليكة ، عن يعلى بن مملك ، عن أم سلمة أنها وصفت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل وقراءته فقالت : كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ، ثم يصلي قدر ما نام ثم ينام قدر ما صلى . ونعتت قراءاته حرفا حرفا .

6608 - وزاد بعضهم فيه : ثم يقوم فيصلي ويوتر .

6609 - رواه الليث بن سعد وغيره عن ابن أبي مليكة .

6610 - وأما قولها : أتنام قبل أن توتر يا رسول الله ؟ فقيل : إن عائشة لم تعرف النوم قبل الوتر ; لأن أباها أبا بكر - رضي الله عنه - كان لا ينام حتى يوتر ، وكان يوتر أول الليل .

6611 - وهذا عنه محفوظ معلوم قد ذكرنا الخبر به في موضعه .

6612 - فلذلك - والله أعلم - قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أتنام قبل أن توتر ؟ لأنها رأت أباها لا يفعل ذلك وكانت صبية فيها يقظة .

6613 - أما قوله - صلى الله عليه وسلم - جوابا لها : " إن عيني تنامان ولا ينام قلبي " فتلك من علياء مراتب الأنبياء صلوات الله عليهم .

6614 - وذلك روي عنه أنه قال : " إنا - معشر الأنبياء - تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا " .

6615 - ولهذا - والله أعلم - قال ابن عباس : رؤيا الأنبياء وحي ; لأن الأنبياء يفارقون سائر البشر في نوم القلب ويساووهم في نوم العين ، ولو تسلط [ ص: 241 ] النوم على قلوبهم كما يصنع بغيرهم لم تكن رؤياهم إلا كرؤيا من سواهم ، وقد خصهم الله من فضله بما شاء أن يخصهم به .

6616 - ومن هذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام حتى ينفخ ثم يصلي ولا يتوضأ ; لأن الوضوء من النوم إنما يجب لغلبة النوم على القلب لا على العين .

6617 - فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يساوي أمته في الوضوء من الحدث ولا يساويهم في الوضوء من النوم ، كما لم يساويهم في وصال الصوم وغيره مما جرت عادتهم به .

6618 - فإن قيل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ من النوم ، قيل : كان يتوضأ لكل صلاة وما جاء عنه قط أنه قال : وضوئي هذا من النوم ، وليس ببعيد أن يتوضأ إذا خامر النوم قلبه ، وذلك نادر ، كنومه في سفره عن صلاة الصبح ليسن لأمته أن الصلاة لا يسقطها خروج الوقت ، وإن كان مغلوبا بنوم أو نسيان ، وهذا واضح والله المستعان .

6619 - روى حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نام حتى سمع غطيطه ، ثم صلى ولم يتوضأ .

6620 - قال عكرمة : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محفوظا
.

6621 - وإن ذلك كان منه نادرا ليس لأمته كما سن فيمن نام أو نسي ، وكما قال " إني لأنسى لأسن " .

6622 - وذكر عبد الرزاق وأبو سفيان ، عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 242 ] " قيل لي : لتنم عينك وليعقل قلبك ولتسمع أذنك ، فنامت عيني وعقل قلبي وسمعت أذني " . وذكر الحديث .

6623 - وقد زدنا هذا المعنى بيانا في " التمهيد " وتقدم عنه في باب " النوم عن الصلاة ليلة الوادي " ما فيه كفاية ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية