الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
269 [ ص: 253 ] باب الأمر بالوتر

239 - مالك ، عن نافع وعبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " صلاة الليل مثنى مثنى ، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة توتر له ما قد صلى " .


[ ص: 254 ] 6675 - ظاهر هذا الحديث أن صلاة الليل مثنى مثنى دون صلاة النهار .

6676 - ويحتمل أن يكون جوابه - صلى الله عليه وسلم - خرج على سؤال السائل ، فاقتصر به على جوابه عن ما سأل عنه ، كأنه قال له : يا رسول الله ، صلاة الليل ؟ فقال : مثنى مثنى ، وبقيت صلاة النهار موقوفة على الدليل محتملة للتأويل .

6677 - لأنه جائز أن يكون جوابه له لو سأله عن صلاة النهار كذلك أيضا ، وجائز أن يكون بخلافه .

6678 - فلما روى علي الأزدي ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " صلاة الليل والنهار مثنى مثنى " بان المراد فيما وصفنا مع ما قدمنا ذكره قبل هذا الباب من قول ابن عمر : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ، وفتواه ، فبان بذلك أن المسكوت عنه في هذا الحديث هو بمعنى المذكور ، وأن النهار والليل في صلاة النافلة سواء : مثنى مثنى .

[ ص: 255 ] 6679 - وقد تقدم ما يكفي في هذا المعنى .

6680 - وروى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة ، منهم : نافع ، وعبد الله بن دينار ، وسالم ، وطاوس ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، ومحمد بن سيرين ، وحبيب بن أبي ثابت ، وحميد بن عبد الرحمن ، وعبد الله بن شقيق ، كلهم قال فيه : عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " صلاة الليل مثنى مثنى " لم يذكر النهار .

6681 - وذكره علي الأزدي عن ابن عمر ، عن النبي ، صلى الله عليه وسلم . والمعنى عندنا في ذلك ما وصفنا وبالله التوفيق .

6682 - واختلف الفقهاء في صلاة التطوع بالنهار والليل ، فقال مالك ، والليث بن سعد ، والشافعي ، وابن أبي ليلى ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، صلاة الليل والنهار مثنى مثنى .

6683 - وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وداود .

6684 - وقال أبو حنيفة ، والثوري : صل ما شئت بعد أن تقعد في كل ركعتين .

6685 - وهو قول الحسن بن حي .

6686 - وقال الأوزاعي : صلاة الليل مثنى مثنى ، وصلاة النهار أربع ركعات .

6687 - وهو قول إبراهيم النخعي ، رواه سعيد بن أبي عروبة ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، قال : صلاة الليل مثنى مثنى ، وصلاة النهار أربع ركعات ، إن شاء لا يسلم إلا في آخرهن .

6688 - وهو قول يحيى بن سعيد الأنصاري .

6689 - وقال الأثرم : سألت أحمد بن حنبل عن صلاة الليل والنهار في [ ص: 256 ] النافلة ، فقال : أما الذي أختار فمثنى مثنى ، وإن صلى بالنهار أربعا فلا بأس ، وأرجو ألا يضيق عليه .

6690 - فذكرت له حديث يعلى بن عطاء ، عن علي الأزدي ، فقال : لو كان ذلك الحديث يثبت ، ومع هذا فإن ابن عمر كان يصلي ركعتين في تطوعه بالنهار ، ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها ، فهو أحب إلي ، فإن صلى أربعا ، فقد روي عن ابن عمر أنه كان يصلي أربعا بالنهار .

6691 - قال ابن عون : قال لي نافع : أما نحن فنصلي بالنهار أربعا فذكرته لمحمد بن سيرين ، فقال : لو صلى ركعتين كان أجدر أن يحفظ .

6692 - حدثنا خلف بن قاسم ، قال : حدثنا أبو طالب محمد بن زكريا المقدسي ، قال : حدثنا أبو محمد مضر بن محمد ، قال : سألت يحيى بن معين عن صلاة الليل والنهار ، فقال : صلاة النهار أربع لا يفصل بينهن ، وصلاة الليل ركعتان .

6693 - فقلت له : إن أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى .

6694 - فقال : بأي حديث ؟

6695 - فقلت : بحديث شعبة عن يعلى بن عطاء ، عن علي الأزدي ، عن ابن عمر أن النبي قال : " صلاة الليل والنهار مثنى مثنى " .

6696 - فقال : ومن علي الأزدي حتى أقبل منه هذا ؟ ! أدع يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنه كان يتطوع بالنهار أربعا لا يفصل [ ص: 257 ] بينهن ، وآخذ بحديث علي الأزدي ؟ ! لو كان حديث علي الأزدي صحيحا لم يخالفه ابن عمر .

6697 - قال يحيى : وقد كان شعبة يتقي هذا الحديث وربما لم يرفعه .

6698 - قال أبو عمر : قد تقدم قولنا في معنى حديث ابن عمر المرفوع في هذا الباب . وما يحتمله من التأويل ، وحديث علي الأزدي لا نكارة فيه ولا مدفع له في شيء من الأصول ; لأن مالكا قد ذكر في موطئه أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يقول : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى . ورواه ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن بكير بن الأشج ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان أنه سمع ابن عمر يقول : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى .

6699 - ومن الدليل على ذلك أيضا : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين ، وبعد المغرب ركعتين ، وبعد الجمعة ركعتين ، وقد روي قبل العصر ركعتين ، وقال : " إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين " .

6700 - وكان إذا قدم من سفر نهارا صلى ركعتين .

6701 - وصلاة الفطر والأضحى والاستسقاء ركعتان .

6702 - فهذه كلها صلاة النهار وما أجمعوا عليه من هذا وجب رد ما اختلفوا فيه إليه قياسا ونظرا ، وبالله التوفيق .

6703 - وفي قوله في هذا الحديث : " فإذا خشي الصبح صلى ركعة توتر له ما قد صلى " . على أن الوتر يكون بركعة واحدة قد تقدمتها صلاة ، ولا تكون ثلاثا لا يفصل بينهن بسلام .

6704 - وهذا موضع اختلف فيه العلماء قديما وحديثا ، فأجاز الوتر بركعة [ ص: 258 ] منفصلة مما قبلها جماعة من السلف ، منهم عبد الله بن عمر ، ومعاذ بن الحارث ، والسائب بن خباب ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء .

6705 - وبه قال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، كل هؤلاء يستحب أن يسلم المصلي بين الشفع والوتر .

6706 - وقال مالك : ما شيء أبين من هذا في الفصل بين الشفع والوتر .

6707 - وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والحسن بن حي : الوتر ثلاث لا يفصل بينهن .

6708 - وروى محمد بن سيرين ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " صلاة المغرب وتر صلاة النهار ، فاجعلوا آخر صلاة الليل وترا .

6709 - احتج بهذا الحديث المالكيون والحنفيون وليس فيه حجة واضحة بهذا لأحد الفريقين ، والله أعلم .

6710 - على أن مالكا قد رواه عن نافع ، عن ابن عمر موقوفا .

6711 - وقال الأوزاعي : إن شاء فصل وإن شاء لم يفصل .

6712 - وكل هذه الأقوال لها وجوه ودلائل من جهة الأثر قد ذكرتها في [ ص: 259 ] " التمهيد " .

6713 - والاختيار في ذلك ما قاله مالك والشافعي .

6714 - وسيأتي القول في الوتر بركعة ليس قبلها شيء عند ذكر فعل سعد بن أبي وقاص لذلك في هذا الباب إن شاء الله تعالى ، فإنه لم يذكره مالك عن غيره .

6715 - وليس هذا الحديث بمجيز عند مالك وأصحابه لأحد أن يوتر بركعة ليس قبلها صلاة إذا خشي الصبح على ظاهر الشرط في هذا الحديث ; لأنه حديث خرج الكلام فيه على صلاة تقدمت قبل ذلك ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " صلاة الليل مثنى مثنى ، فإذا خشي أحدكم الصبح . . . " الحديث .

6716 - ولأنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث عائشة وغيرها : كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة ، فكان فعله بيانا لقوله ذلك والله أعلم .

6717 - وأما الشافعي فقال : في هذا الحديث دليل على أن الوتر بركعة لمن خشي الصبح جائز ، وإن لم يصل قبلها شيئا .

6718 - قال : والقياس أنه يجوز ذلك لكل الناس خشوا الصبح أو لم يخشوه ; لأنه إذا جاز أن يفصل بسلام مما قبلها جاز أن تصلى وحدها .

التالي السابق


الخدمات العلمية