الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
287 257 - وأما حديثه عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال : سمع قوم الإقامة فقاموا يصلون فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم فقال : " أصلاتان معا ؟ أصلاتان معا ؟ " وذلك في صلاة الصبح ، والركعتين اللتين قبل الصبح .


6929 - فهكذا رواه في " " الموطأ " " كل من روى " الموطأ " ، ورواه الوليد بن مسلم ، عن مالك ، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن أنس بن مالك أن ناسا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعوا الإقامة فقاموا يصلون ، فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " أصلاتان معا ؟ " 6930 - وقد أخطأ الوليد بن مسلم إذ جعله عن أنس ، والصواب عن مالك ما في " الموطأ " .

6931 - وقد رواه الدراوردي ، عن شريك بن أبي نمر ، عن أبي سلمة ، عن عائشة فأسنده .

6932 - وقد روى هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه : عبد الله بن [ ص: 303 ] سرجس ، وعبد الله بن بحينة ، وأبو هريرة ، وابن عباس ، وجابر بن عبد الله .

6933 - وقد ذكرناها بالأسانيد في كتاب " التمهيد " .

[ ص: 304 ] 6934 - والمعنى في هذا الحديث النهي عن أن يصلي أحد في المسجد صلاة نافلة ، ويترك الصلاة القائمة فيه الفريضة .

6935 - وكذلك حكى ابن عبد الحكيم ، عن مالك قال : لا يركع أحد في المسجد وقد أقيمت الصلاة .

6936 - وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " .

6937 - وقد ذكرنا هذا الحديث من طرق كثيرة عن أبي هريرة ، عن النبي في " التمهيد " .

6938 - واختلف الفقهاء في الذي لم يصل ركعتي الفجر وأدرك الإمام في الصلاة ، أو دخل المسجد ليصليهما ، فأقيمت عليه الصلاة .

[ ص: 305 ] 6939 - فقال مالك : إذا كان قد دخل المسجد فليدخل مع الإمام ولا يركعهما في المسجد ، وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف أن يفوته الإمام بركعة فليركعهما خارج المسجد ولا يركعهما في شيء من أفنية المسجد اللاصقة به التي تصلى فيها الجمعة . وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى مع الإمام فليدخل وليصل معه ، ثم يصليهما إذا طلعت الشمس إن أحب ، ولأن يصليهما إذا طلعت الشمس أحب إلي من تركهما .

6940 - وقال الثوري : إن خشي فوت ركعة دخل معه ولم يصلهما وإلا صلاهما وإن كان قد دخل المسجد .

6941 - وقال الأوزاعي : إذا دخل المسجد يركعهما إلا أن يوقن أنه إن فعل فاتته الركعة الأخيرة ، فأما الركعة الأولى فليركع وإن فاتته .

6942 - وقال الحسن بن حي : إذا أخذ المقيم في الإقامة فلا تطوع إلا ركعتي الفجر .

6943 - وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن خشي أن تفوته الركعتان ولا يدري الإمام قبل رفعه من الركوع في الثانية دخل معه وإن رجى أن يدرك ركعة صلى ركعتي الفجر خارج المسجد ، ثم يدخل مع الإمام .

6944 - قال أبو عمر : اتفق هؤلاء كلهم على أن يركع ركعتي الفجر والإمام يصلي ، منهم من راعى فوت الركعة الأولى ، ومنهم من راعى الثانية ، ومنهم من اشترط الخروج عن المسجد ، ومنهم من لم يشترطه ورأى أن يصلي فيه وحجتهم أن ركعتي الفجر من السنن المؤكدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواظب عليها ، فإذا أمكن الإتيان بهما وإدراك ركعة من صلاة الصبح فلا يتركهما ، لأن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها .

6945 - واحتج بعضهم بأن قال : يحتمل قوله : " أصلاتان معا " أن يكون أراد الجمع بين الفريضة والنافلة في موضع واحد كما نهى عن الصلاة يوم [ ص: 306 ] الجمعة تطوعا بعدها في مقام واحد حتى يتقدم أو يتكلم .

6946 - احتج بهذا الطحاوي ، وليس هذا عندي بشيء ; لأن النهي إنما ورد أن تصليا معا ، وأن يصلي إذا أقيمت المكتوبة - غيرها مما ليس بمكتوبة ويشتغل عنها بما سواها .

6947 - واحتج من رأى أن تصلى خارج المسجد بحديث يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر أنه جاء والإمام يصلي صلاة الصبح ولم يكن صلى الركعتين قبل صلاة الصبح ، فصلاهما في حجرة حفصة ، ثم دخل مع الإمام .

6948 - وهذا قول مالك ، وأبي حنيفة .

6949 - وقد ذكرنا إسناد هذا الحديث في " التمهيد " .

6950 - وعن سعيد بن جبير معناه ، وقد ذكرناه أيضا .

6951 - وروي عن ابن مسعود ، أنه دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فصلى إلى أسطوانة في المسجد ركعتي الفجر ثم دخل في الصلاة بمحضر من حذيفة وأبي موسى .

6952 - وبهذا قال الأوزاعي والثوري .

6953 - ومن حجتهما أنه إذا جاز الاشتغال عن المكتوبة التي أقيمت بركعتي الفجر خارج المسجد جاز ذلك في المسجد .

6954 - وقال الشافعي : من دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة للصبح ، ولم يكن ركع ركعتي الفجر ، فليدخل مع الناس ولا يركع ركعتي الفجر لا خارج المسجد ولا داخل المسجد .

6955 - وكذلك قال الطبري : لا يتشاغل أحد بنافلة بعد إقامة الفريضة .

6956 - وقال أبو بكر بن الأثرم : سئل أحمد بن حنبل - وأنا أسمع - عن رجل [ ص: 307 ] دخل المسجد والإمام في صلاة الصبح ولم يركع الركعتين .

6957 - فقال : يدخل في الصلاة ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " وقال أيضا : " أصلاتان معا " .

6958 - قال أحمد : ويقضيهما من الضحى إن شاء .

6959 - قيل له : فإن صلاهما بعد سلامه قبل طلوع الشمس ؟

6960 - قال : يجزئه ، وأما أنا فأختار أن يصليهما من الضحى .

6961 - ثم قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن نافع ، قال : كان ابن عمر يصليهما من الضحى .

6962 - وقال محمد بن سيرين : كانوا يكرهون أن يصلوهما إذا أقيمت الصلاة ، وقال : ما يفوته من المكتوبة أحب إلي منهما .

6963 - قال أبو عمر : هذا القول أصح ; لأن فيه حديثا مسندا يجب الوقوف عنده والرد إليه فيما ينازع العلماء فيه ، إذ لم يكن له في الكتاب ذكر ولا جاء عن النبي ما يعارضه .

6964 - حدثنا أبو الحسن علي بن إبراهيم بن أحمد بن حمويه ، قال : حدثنا أبو محمد الحسن بن رشيق ، قال : حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن سلم المقدسي ببيت المقدس ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عمر الحنفي ، قال : حدثنا عبد الرزاق بن همام ، قال : أخبرنا معمر ، وابن جريج ، وسفيان الثوري ، وزكريا بن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " .

6965 - وهكذا رواه حماد بن سلمة ، وحماد بن زيد ، وجماعة يطول ذكرهم ، [ ص: 308 ] عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، عن النبي مرفوعا .

6966 - ومنهم من يرويه عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عمرو بن دينار بإسناده مثله .

6967 - وقد وقف قوم هذا الحديث على أبي هريرة ، منهم سفيان بن عيينة ، والذين يرفعونه أكثر عددا وكلهم حافظ ثقة ، فيجب قبول ما زادوه وحفظوه على أن ما صح رفعه لا حرج على الصاحب في توقيفه ; لأنه أفتى بما علم منه .

6968 - وليس قوله : " أصلاتان معا ؟ " مما يمنع من صلاة العشاء الآخرة في المسجد لمن فاتته مع الإمام ، والناس في صلاة الإشفاع ; لأن النهي في ذلك إنما ورد عن الاشتغال بنافلة عن فريضة تقام في الجماعة ، والمساجد إنما بنيت للفرائض لا للنوافل .

6969 - فالذي تفوته صلاة العشاء أحق بإقامتها في المسجد من المصلين فيه جماعة نافلة الإشفاع كانت أو غيرها .

6970 - وينبغي له أن يصير في ناحية من المسجد حيث يأمن تخليط الإمام في الإشفاع عليه .

6971 - وعلى ما قلت لك جماعة الفقهاء لا أعلمهم يختلفون في ذلك .

6972 - وفيما وصفت لك دليل على أن المراد بالحديث كراهة الاشتغال عن الفريضة بالنافلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية