الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
290 [ ص: 311 ] 8 - كتاب صلاة الجماعة [ ص: 312 ] [ ص: 313 ] باب فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ

260 - ذكر فيه مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله [ ص: 314 ] - صلى الله عليه وسلم - قال : " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة " .

261 - وعن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا " .


[ ص: 315 ] 6980 - قال أبو عمر : معنى قوله في هذا الحديث : " جزءا " وفي حديث ابن عمر : " درجة " وفي حديث أبي سعيد الخدري : " خمسا وعشرين صلاة " ذكره أبو داود - معنى واحدا كله ، يريد تضعيف ثواب المصلي في جماعة على ثواب المصلي وحده ، وفضل أجر من صلى في جماعة على أجر المنفرد في صلاته بالأجزاء المذكورة .

[ ص: 316 ] 6981 - ويشهد لهذا حديث أنس بن مالك وغيره في حديث الإسراء ، قال فيه : " هي خمس ، وهي خمسون ، الحسنة بعشر أمثالها " .

6982 - وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اثنان فما فوقهما جماعة " .

6983 - حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا الحوطي ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، عن عيسى بن إبراهيم ، عن موسى بن أبي حبيب ، عن الحكم بن عمير ، وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اثنان فما فوقهما جماعة " .

6984 - قال الحوطي : حدثت به سفيان بن عيينة في المنام بإسناده فقال : صدق .

6985 - قال أبو عمر : قد استدل قوم بهذه الأحاديث على الأفضل لكثير الجماعة على قليلها ، وبما عليه أكثر العلماء فيمن صلى في جماعة اثنين فما فوقهما ألا يعيد في جماعة أخرى بأكثر منها .

6986 - ومعلوم أن إعادة الفذ لما صلى وحده مع الجماعة إنما كان لفضل الجماعة على الانفراد .

6987 - فإذا لم يعد من صلى مع اثنين أو ثلاثة في الجماعة الكثيرة دل على ما وصفناه .

[ ص: 317 ] 6988 - وقد رويت آثار مرفوعة منها .

6989 - حديث أبي بن كعب وغيره ، أن صلاة الرجل مع الرجلين أفضل من صلاته وحده ، وصلاته مع الثلاثة أفضل من صلاته مع الرجلين ، وكلما كثر كان أزكى وأطيب .

6990 - وهي آثار كثيرة ليست في القوة والثبوت والصحة كآثار هذا الباب .

6991 - وقد قلنا : إن الفضائل لا مدخل فيها للقياس والنظر ، وإنما يقال فيها بما صح التوقيف به ، والله يتفضل بما شاء من رحمته على من يشاء من عباده .

6992 - وفي هذا الحديث من رواية ابن عمر ، وأبي هريرة دليل على جواز صلاة الفذ وحده ، وإن كانت صلاة الجماعة أفضل .

6993 - وإذا جازت صلاة الفذ وحده بطل أن يكون شهود صلاة الجماعة فرضا .

6994 - لأنه لو كانت فرضا لم تجز للفذ صلاته وهو قادر على الجماعة تارك لها .

6995 - كما أن الفذ لا يجزئه يوم الجمعة أن يصلي قبل الإمام ظهرا إذا كان ممن تجب عليه الجمعة .

6996 - قد احتج بهذا جماعة من العلماء ، وعلى هذا أكثر الفقهاء بالحجاز والعراق والشام ، كلهم يقولون : إن حضور الصلاة في جماعة فضيلة وسنة مؤكدة لا ينبغي تركها وليست بفرض .

[ ص: 318 ] 6997 - ومنهم من قال : إنها فرض على الكفاية .

6998 - ومنهم من قال : شهودها سنة مؤكدة لا يرخص في تركها للقادر عليها ، ومن تخلف عنها وأتى بها في بيته جزت عنه ، إلا أن من صلاها في المسجد جماعة أفضل منه ، ولهم في ذلك دلائل يطول ذكرها .

6999 - وقال داود ، وسائر أهل الظاهر : حضور صلاة الجماعة فرض متعين على كل مكلف من الرجال إذا كان قادرا عليها ، كالجمعة .

7000 - وقالوا : لا تجزئ الفذ صلاته إلا بعد صلاة الناس ، وبعد ألا يجد - قبل خروج الوقت - من يصلي معه .

7001 - واحتجوا في إيجاب شهود الجماعة فرضا بأشياء ، منها :

7002 - حديث أبي هريرة عن النبي في إحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة معه .

[ ص: 319 ] 7003 - وقالوا : لا يحرق عليهم بيوتهم إلا لتركهم ما قد وجب عليهم .

7004 - وسيأتي القول في معنى حديث أبي هريرة وما كان مثله في ذلك عند ذكره من رواية مالك في هذا الباب ، إن شاء الله تعالى .

7005 - واحتجوا أيضا بظواهر آثار . منها قوله - صلى الله عليه وسلم - لعتبان بن مالك ولابن أم مكتوم حين استأذنه كل واحد منهما في التخلف عن صلاة الجماعة : " أتسمع النداء ؟ " قال : نعم . قال : " لا أجد لك رخصة " .

[ ص: 320 ] 7006 - وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " .

7007 - وقوله : " فمن سمع النداء ولم يجب فلا صلاة له " .

7008 - وهذا القول منه - صلى الله عليه وسلم - عند جمهور العلماء خرج على شهود الجمعة لا على شهود الجماعة في غيرها .

7009 - وكذلك قوله لعتبان بن مالك وابن أم مكتوم .

7010 - هذا لو صح الأثر بما ذكروا . فكيف وهي آثار فيها علل وهي محتملة للتأويل .

7011 - وكذلك قوله : " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " لا يثبت مرفوعا ، ولو صح كان معناه الكمال كما قال : " لا إيمان لمن لا أمانة له ، [ ص: 321 ] ولا يزني الزاني وهو مؤمن " .

7012 - وقد بينا هذا المعنى في " التمهيد " ، والحمد لله .

7013 - قال أبو عمر : لا يخلو قوله - صلى الله عليه وسلم - : " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ " من أحد ثلاثة أوجه .

7014 - إما أن يكون المراد بذلك صلاة النافلة .

7015 - أو يكون المراد بذلك من تخلف من عذر .

7016 - أو يكون المراد بذلك من تخلف من غير عذر .

7017 - وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة " .

7018 - فعلمنا بذلك أنه لم يرد بحديث هذا الباب صلاة النافلة ; لأنه قد فضل صلاة المنفرد في بيته .

7019 - وكذلك لما قال - صلى الله عليه وسلم - : " من كان له صلاة بليل فغلبه عليها نوم [ ص: 322 ] كتب له أجر صلاته ، وكان نومه عليه صدقة .

7020 - وقال - صلى الله عليه وسلم - : " إذا شغل العبد عن عمل كان يعمله - مرض ابتلاه الله به كتب له أجر ذلك العمل ما دام في وثاق مرضه .

7021 - ومثل هذا كثير قد ذكرناه فيما مضى من هذا الكتاب .

7022 - علمنا بذلك أن من تخلف من عذر فلم يدخل في معنى الحديث .

7023 - وإذا بطل هذان الوجهان صح أن المراد بذلك هو المتخلف عما ندب إليه ، وجب وجوب سنة عليه بغير عذر .

7024 - وعلمنا أن النبي لم يفاضل بينهما إلا وهما جائزان إلا أن أحدهما أفضل من الآخر .

التالي السابق


الخدمات العلمية