الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
307 [ ص: 381 ] باب صلاة الإمام وهو جالس

276 - مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو شاك جالسا ، [ ص: 382 ] وصلى وراءه قوم قياما ، فأشار إليهم أن اجلسوا ، فلما انصرف قال : " إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا .

277 - مالك ، عن ابن شهاب ، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب فرسا فصرع عنه فجحش شقه الأيمن . . الحديث .


[ ص: 383 ] [ ص: 384 ] 7337 - فيه ركوب الخيل لأهل الدين والفضل والتقلب عليها ، لما في ذلك من العزة والعون على جهاد العدو .

7338 - وقد روى ثابت عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب فرسا لأبي طلحة عريا ، في حين فرغ أهل المدينة لخيل أغار بها عيينة بن حصن أو ابنه عبد الرحمن على لقاح المدينة ، ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : " لن تراعوا ، لن تراعوا " .

[ ص: 385 ] 7339 - ثم قال في الفرس : " لقد وجدته بحرا ، أو إن وجدناه لبحرا " .

7340 - وهو مذكور بإسناده في " التمهيد " .

7341 - وأما قوله : جحش شقه ، فهو بمعنى : خدش شقه ، وقد قيل : الجحش فوق الخدش ، وحسبك أنه من أجله لم يقدر أن يصلي قائما فصلى قاعدا .

7342 - وأما قوله في الحديث : " إنما جعل الإمام ليؤتم به " فقد أجمع العلماء على أن الائتمام واجب على كل إمام بإمامه في ظاهر أفعاله الجائزة ، وأنه لا يجوز خلافه لغير عذر .

7343 - وقد روى معن بن عيسى في " " الموطأ " " عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه .

7344 - ولا أعلم أحدا رواه عن مالك من رواة " " الموطأ " " بهذا الإسناد غير معن بن عيسى ، وفيه : " فلا تختلفوا عليه " وليس في حديث ابن شهاب وهشام بن عروة قوله : " فلا تختلفوا عليه " .

7345 - وقد رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 386 ] 7346 - واختلف العلماء في صلاة ما كانت نيته فيها خلاف نية إمامه .

7347 - فقال مالك وأصحابه : لا تجزئ أحد أن يصلي الفريضة خلف [ ص: 387 ] المتنفل ، ولا يصلي عصرا خلف من يصلي ظهرا ، ومتى اختلفت نية الإمام والمأموم في الفريضة بطلت صلاة المأموم دون الإمام ، وكذلك من صلى فرضه خلف المتنفل .

7348 - وهو قول أبي حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، وقول أكثر التابعين بالمدينة والكوفة .

7349 - وحجتهم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنما جعل الإمام ليؤتم به " فمن خالف في نيته فلم يأتم به .

7350 - وقال : فلا تختلفوا عليه ولا اختلاف أشد من اختلاف النيات التي عليها مدار الأعمال .

7351 - واعتلوا في قصة معاذ برواية عمرو بن يحيى ، عن معاذ بن رفاعة الزرقي ، عن رجل من بني سلمة أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطويل معاذ بهم ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تكن فتانا ، إما أن تصلي معي وإما أن تخفف على قومك " .

7352 - قالوا : وهذا يدل على أن صلاته بقومه كانت فريضته وكان متطوعا بصلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .

7353 - قالوا : وصلاة المتنفل خلف من يصلي الفريضة جائزة بإجماع العلماء على ذلك .

[ ص: 388 ] 7354 - وقال الشافعي ، والأوزاعي ، وداود ، والطبري ، وهو المشهور عن أحمد بن حنبل : يجوز أن يقتدى في الفريضة بالمتنفل ، وأن يصلى الظهر خلف من يصلي العصر ، فإن كل مصل يصلي لنفسه وله ما نواه من صلاته ، فالأعمال بالنيات .

7355 - ومن حجتهم أن قالوا : إنما أمرنا أن نأتم بالإمام فيما يظهر إلينا من أفعاله ، فأما النية فمغيبة عنها ، ومحال أن نؤمر باتباعه فيما يخفى من أفعاله علينا .

7356 - قالوا : وفي الحديث نفسه ما يدل على ذلك أنه قال : " إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا " .

7357 - وقد ذكرنا في " التمهيد " من زاد في هذا الحديث : " وإذا كبر فكبروا ، وإذا سجد فاسجدوا " .

7358 - ولم تختلف الرواية فيه في قوله : " وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا " . فعرفنا أفعاله التي نأتم به فيها - صلى الله عليه وسلم - بما يقتدى فيه بالإمام ، وهي أفعاله إليهم من التكبير والركوع والسجود والقيام والقعود ، ففي هذا قيل لهم : لا تختلفوا عليه .

7359 - قالوا : ومن الدليل على صحة هذا التأويل حديث جابر من نقل الأئمة في قصة معاذ ، إذ كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ينصرف فيؤم قومه في تلك الصلاة التي صلاها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي له نافلة ولهم فريضة .

[ ص: 389 ] 7360 - ولا يوجد من نقل من يوثق به : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : " إما أن تجعل صلاتك معي وإما أن تخفف بالقوم " .

7361 - وهذا لفظ منكر لا يصح عن أحد يحتج بنقله ، ومحال أن يرغب معاذ عن الصلاة الفريضة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصلاته مع قومه وهو يعلم فضل ذلك وفضل صلاة الفريضة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفه - صلى الله عليه وسلم - .

7362 - والدليل على صحة هذا التأويل أيضا قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " .

7363 - فنهى أصحابه وسائر أمته أن يشتغلوا بنافلة إذا أقيمت المكتوبة ، فكيف يظن بمعاذ أن يترك صلاة لم يصلها بعد ولم يقض ما افترض عليه في وقتها ويتنفل وتلك تقام في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو - صلى الله عليه وسلم - قد قال لهم : " لا صلاة إلا المكتوبة التي تقام ! ! .

7364 - وقد روى ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر أن معاذا كان يصلي مع النبي العشاء ثم ينصرف إلى قومه فيصلي بهم ، هي له تطوع ولهم فريضة .

7365 - وهذا نص في موضع الخلاف .

7366 - قال ابن جريج : وحدثت عن عكرمة عن ابن عباس أن معاذا . . . فذكر مثله سواء .

7367 - وأما قوله في حديث مالك في هذا الباب : " وإذا صلى قائما فصلوا قياما " فهذا كلام خرج على صلاة الفريضة . وهذا ما لا خلاف فيه .

7368 - وقد أجمع العلماء على جواز صلاة الجالس خلف الإمام القائم في [ ص: 390 ] النافلة ، فدل على ما ذكرنا إلا أن المصلي جالسا في النافلة وهو قادر على القيام - له نصف أجر المصلي فيها قائما .

7369 - وأجمع العلماء على أن القيام في الصلاة المكتوبة فرض واجب ، لقول الله عز وجل : " وقوموا لله قانتين " ( البقرة : 238 ) فلا يجوز لأحد أن يصلي مكتوبة قاعدا وهو قادر على القيام .

7370 - واختلفوا في المأموم الصحيح يصلي قاعدا خلف إمام مريض لا يستطيع القيام .

7371 - فأجازت ذلك طائفة من أهل العلم اتباعا لهذا الحديث ، وما كان مثله في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " وإذا صلى جالسا - يعني من عذر - فصلوا جلوسا أجمعون " .

7372 - روي هذا من طرق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة وابن عباس وابن عمر وأنس وجابر ، بأسانيد صحاح .

7373 - وممن قال بأن الإمام إذا صلى جالسا لمرض أصابه صلى الناس خلفه جلوسا ، وهم أصحاء قادرون على القيام : حماد بن زيد ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، أخذا بحديث مالك هذا ، وما كان مثله واتباعا له .

7374 - وإليه ذهب بعض أصحاب الظاهر .

7375 - وقال أحمد بن حنبل : وفعله أربعة من الصحابة بعده : أسيد بن حضير ، وقيس بن قهد ، وجابر بن عبد الله ، وأبو هريرة .

7376 - قال أبو عمر : قد ذكرنا الأسانيد بذلك عنهم في " التمهيد " .

[ ص: 391 ] 7377 - وقال جمهور العلماء : لا يجوز لأحد أن يصلي شيئا من الصلوات المكتوبات جالسا وهو صحيح قادر على القيام ، لا إماما ولا منفردا ولا خلف إمام .

7378 - ثم اختلفوا ، فمنهم من أجاز صلاة القائم خلف القاعد كلا يؤدي فرضه على قدر طاقته للحديث الذي فيه صلاة أبي بكر وهو قائم خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قاعد في مرضه الذي مات فيه ، والناس قيام خلفه مع أبي بكر .

7379 - ويأتي بعد هذا الباب إن شاء الله تعالى .

7380 - وممن قال بهذا الشافعي ، وأبو ثور ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وداود بن علي .

7381 - وقد روى الوليد بن مسلم عن مالك أنه أجاز للإمام المريض أن يصلي بالناس جالسا وهم قيام .

7382 - قال : وأحب إلي أن يقوم بجنبه من يعلم الناس بصلاته .

7383 - وهذه الرواية غريبة عن مالك عند أصحابه .

7384 - وقال ابن القاسم : لا يأتم القائم بالجالس في فريضة ولا نافلة ، ولا بأس أن يأتم الجالس بالقائم .

7385 - قال : ولا ينبغي لأحد أن يؤم أحدا في فريضة ولا نافلة قاعدا ، فإن عرض له ما يمنعه من القيام استخلف .

[ ص: 392 ] 7386 - واحتج ابن القاسم في ذلك بأن قال : حدثني مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج وهو مريض ، وأبو بكر يصلي بالناس ، فجلس إلى جنب أبي بكر فكان أبو بكر هو الإمام ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بصلاة أبي بكر ، وقال : " ما مات نبي حتى يؤمه رجل من أمته " .

[ ص: 393 ] 7387 - قال ابن القاسم : قال مالك : والعمل عندنا على حديث ربيعة هذا وهو أحب إلي .

7388 - قال سحنون : بهذا الحديث يأخذ ابن القاسم وليس في " " الموطأ " " أن أبا بكر كان الإمام وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مؤتما ، والذي في " " الموطأ " " خلاف هذا أن أبا بكر كان يصلي بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس يصلون بصلاة أبي بكر وهو قائم ، والناس قيام ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس .

7389 - وذكر أبو مصعب في مختصره عن مالك ، قال : لا يؤم الناس أحد قاعدا ، فإن أمهم قاعدا فسدت صلاته وصلاتهم .

7390 - قال : فإن كان الإمام عليلا تمت صلاته وفسدت صلاة من خلفه .

[ ص: 394 ] 7391 - قال : ومن صلى قاعدا من غير علة أعاد الصلاة .

7392 - فعلى رواية أبي مصعب هذه ، عن مالك تجب الإعادة على من صلى قائما خلف إمام مريض جالس في الوقت وبعده .

7393 - وقد روي عن مالك أنهم يعيدون في الوقت خاصة .

7394 - وذلك - والله أعلم - لحديثه عن هشام بن عروة ، عن أبيه أن أبا بكر كان يصلي بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس وأبو بكر إلى جنبه قائم ، والناس قيام يصلون بصلاة أبي بكر .

7395 - ولما رواه في غير " " الموطأ " " عن ربيعة أن أبا بكر كان المقدم وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بصلاته فلما رأى الاختلاف في ذلك احتاط فرأى الإعادة في الوقت ; لأن كلا قد أدى فرضه على حسب حاله .

7396 - وقد احتج محمد بن الحسن لقوله ومذهبه في هذا الباب بالحديث الذي ذكر أبو المصعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يؤم أحد بعدي قاعدا " .

7397 - وهو حديث لا يصح عند أهل العلم بالحديث إنما يرويه جابر الجعفي ، عن الشعبي ، مرسلا ، وجابر الجعفي لا يحتج بما يرويه مسندا ، فكيف بما يرويه مرسلا ؟

7398 - وأما قول محمد بن الحسن وأصحابه في هذا الباب فإنه قال : إذا صلى الرجل لمرض به جالسا يركع ويسجد ولا يطيق إلا ذلك - بقوم قيام يركعون ويسجدون ، فإن صلاته جائزة وصلاتهم باطلة ، وإن كان خلفه أحد جالسا لا يطيق القيام فحكمه حكم الإمام صلاته جائزة وصلاة من خلفه من قائم أو جالس يطيق القيام باطل وعليهم الإعادة .

[ ص: 395 ] 7399 - وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : صلاة القائمين خلفه جائزة .

7400 - وهو قول زفر .

7401 - واتفق أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد في أن الإمام لو كان ممن لا يقدر إلا على الإيماء ولا يقدر على الجلوس ولا الركوع ولا السجود جالسا ، فاقتدى به في الإيماء قوم قيام يركعون ويسجدون ، لم تجزهم صلاتهم وأجزأت الإمام صلاته .

7402 - وكان زفر يقول : تجزئهم صلاتهم ; لأنهم صلوا على فرضهم وصلى إمامهم على فرضه .

التالي السابق


الخدمات العلمية