الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
308 278 - وذكر مالك أيضا في هذا الباب عن هشام بن عروة ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج في مرضه فأتى فوجد أبا بكر وهو قائم يصلي بالناس ، فاستأخر أبو بكر فأشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن كما أنت ، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنب أبي بكر ، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر .


[ ص: 396 ] [ ص: 397 ] 7403 - هذا مرسل في " " الموطأ " " وقد وصله حماد بن سلمة وابن نمير وأبو أسامة ، فرووه عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، وقد ذكرنا ذلك في " التمهيد " .

7404 - وفي الحديث ما يدل على أن قوله - صلى الله عليه وسلم - في الإمام : " وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا " - منسوخ ; لأن هذا الفعل كان سنة في علته التي مات منها - صلى الله عليه وسلم - .

7405 - وقوله الأول : كان إذ صرع عن فرس فجحش شقه فصلى في بيته [ ص: 398 ] صلاة من الصلوات - يعني : المكتوبات - جالسا ، وأشار إلى من خلفه أن يجلس وأمرهم أن يصلوا جلوسا إذا صلى إمامهم جالسا .

7406 - وفي هذا الحديث أن أبا بكر والناس كانوا قياما خلفه وهو قاعد ، فلم يشر إليهم بالجلوس ، ولا نهاهم عن فعلهم ذلك ، فعلم أن هذا ناسخ لما قبله .

7407 - فإن قيل : إنه قد اختلف عن عائشة في حديثها هذا ، فروي عنها أن أبا بكر كان المقدم ، وروي عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان هو الإمام المتقدم في تلك الصلاة .

7408 - قيل : وليس هذا باختلاف ; لأنه قد يجوز أن يكون أبو بكر المقدم في وقت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - المقدم في وقت آخر ، لأن مرضه كان أياما خرج فيها مرارا .

7409 - وقد روى الثقات الحفاظ أن أبا بكر كان خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعدا ، وأبو بكر قائم والناس قيام .

7410 - وقد ذكرنا الآثار بذلك من الطرق الصحاح في كتاب " التمهيد " في باب مرسل هشام بن عروة والحمد لله .

7411 - وقد روى شعبة عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : من الناس من يقول : كان أبو بكر المقدم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنهم من يقول كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المقدم بين يدي أبي بكر .

7412 - وأكثر أحوال حديث عائشة في هذا الباب عند المخالف أن يجعل متعارضا فلا يوجب حكما وإذا كان ذلك كذلك لم يحتج بشيء منه ، ورجعنا إلى حديث ابن عباس فإنه لم يختلف فيه عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج في [ ص: 399 ] مرضه يهادى بين رجلين ، فانتهى إلى أبي بكر وهو يؤم الناس ، فجلس إلى أبي بكر وأخذ من الآية التي انتهى إليها أبو بكر ، فجعل أبو بكر يأتم بالنبي ، والناس يأتمون بأبي بكر .

7413 - وقد ذكرنا خبر ابن عباس هذا من طرق في " التمهيد " [ ص: 400 ] فأوضحنا معناه هناك وأخبرنا عن العلة الموجبة لقيام أبي بكر وقيام الناس معه ، بعد أن كان هو الإمام في أول تلك الصلاة ، وأنهما لم يكونا إمامين في صلاة واحدة كما زعم من أراد إبطال الحديث بذلك ، وأن ذلك إنما كان لأن الإمام يحتاج أن يسمع من خلفه تكبيره ويظهر إليهم أفعاله ، وكانت حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مرضه حال من يضعف عن ذلك ، فأقام أبا بكر إلى جنبه لينوب عنه في إسماع الناس التكبير ، ورؤيتهم لخفضه ورفعه ; ليقتدوا به في حركاته وهو جالس والناس وأبو بكر وراءه قيام .

7414 - وصحت بذلك النكتة التي بان فيها أن صلاة القائم خلف الإمام المريض جائزة ، وأن قوله : " فصلوا جلوسا " منسوخ .

7415 - وقد بينا أن ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - : " لا يؤمن أحد بعدي قاعدا " . منكر باطل لا يصح من جهة النقل .

7416 - وكذلك حديث ربيعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منقطع لا يصح أيضا ولا يحتج بمثله على الآثار الثابتة الصحاح من نقل الأئمة ، وبالله التوفيق .

7417 - وهذه المسألة فيها للعلماء أقوال .

أحدها : قول أحمد بن حنبل ومن تابعه : " تجوز صلاة الصحيح جالسا خلف الإمام المريض جالسا " ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا " .

7418 - والثاني : قول الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وزفر ، والأوزاعي ، وأبي ثور ، وداود : " جائز أن يقتدي القائم بالقاعد في الفريضة وغيرها " ; لأن على كل واحد أن يصلي كما يقدر عليه ولا يسقط فرض القيام عن المأموم الصحيح لعجز إمامه عنه .

7419 - وقد روى الوليد بن مسلم ، عن مالك مثل ذلك .

[ ص: 401 ] 7420 - والثالث : قول مالك في المشهور عنه وعن أصحابه أنه : " ليس لأحد أن يؤم جالسا وهو مريض بقوم أصحاء قيام ولا قعود .

7421 - وهو مذهب محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ، فإن صلوا قياما خلف إمام مريض جالس فعليهم عند مالك الإعادة . قيل عنه : في الوقت وقيل أبدا .

7422 - قال سحنون : اختلف قول مالك في ذلك ، ومن أصحاب مالك من قال : يعيد الإمام المريض معهم . وأكثرهم على أنهم يعيدون دونه .

7423 - وقال مالك ، والحسن بن حي ، والثوري ، ومحمد بن الحسن في قائم اقتدى بجالس ، أو جماعة صلوا قياما خلف إمام جالس مريض ، إنها تجزيه ولا تجزيهم .

7424 - واختلف أصحاب مالك في إمامة المريض بالمرضى جلوسا كلهم : فأجازها بعضهم ، وهو قول جمهور الفقهاء ، وكرهها أكثرهم وهو قول ابن القاسم ومحمد بن الحسن .

7425 - وأما قوله في حديث مالك ، عن ابن شهاب ، عن أنس - في هذا الباب - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " وإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا . . . " فإنه يدل على أن عمل المأموم يكون بعقب عمل الإمام وبعده ، فلا فصل لقوله : " إذا ركع . . . " وهذا يقتضي ركوعه .

7426 - وكذلك يقتضي قوله : " وإذا رفع " رفعه . فإذا حصل من الإمام الركوع والرفع والسجود فعل المأموم بعده .

7427 - واختلف قول مالك في ذلك .

7428 - فروي عنه أن عمل المأموم كله مع عمل الإمام ركوعه وسجوده وخفضه ورفعه ما خلا الإحرام والتسليم ، فإنه لا يكون ذلك إلا بعد عمل الإمام وبعقبه .

[ ص: 402 ] 7429 - وروي عنه مثل ذلك أيضا ما خلا الإحرام والقيام من اثنتين والسلام .

7430 - وكان شيخنا أبو عمر رحمه الله يذهب إلى الرواية الأولى [ ص: 403 ] ورأيته مرات لا أحصيها كثرة يقوم مع الإمام في حين قيامه من اثنتين قبل اعتداله وقبل تكبيره ، ولا يراعي اعتداله وتكبيره ، وكان يقول : هي أصح عن مالك قياسا على سائر حركات البدل في الصلاة أنها يكون فيها عمل المأموم مع عمل الإمام ، إلا ما يبتدئ به منها الإمام .

7431 - وقد روي عن مالك أيضا أن الأحب إليه في هذه المسألة أن يكون عمل المأموم بعد عمل الإمام وبعقبه في كل شيء .

7432 - وقد ذكرت في " التمهيد " حديث أبي موسى الأشعري أنه علم أصحابه الصلاة وسننها فقال في الحديث : " وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا ، فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم " . وقال : قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : " فتلك بتلك " .

[ ص: 404 ] 7433 - وقال أبو بكر الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يسأل : متى يكبر من خلف الإمام ومتى يركع ؟ فذكر الحديث " إذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا " ثم قال : يتبعه في كل شيء يصنعه كلما فعل شيئا فعله بعده .

7434 - وهو معنى قول الشافعي .

7435 - وأما قوله في حديث ابن شهاب ، عن أنس أيضا في هذا الباب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " وإذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد " . فإنه يقتضي ما قاله مالك ومن قال بقوله في ذلك : إن الإمام يقتصر على قول : " سمع الله لمن حمده " دون أن يقول : " ربنا ولك الحمد " وإن المأموم يقتصر على قول " ربنا ولك الحمد " دون أن يقول : " سمع الله لمن حمده " .

[ ص: 405 ] 7436 - وهو حجة على من قال : يقول الإمام : سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد كما يقول المنفرد ، وإن المأموم كذلك يقول أيضا .

7437 - ولا أعلم خلافا أنه المنفرد يقول : سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ، أو ولك الحمد .

7438 - وإنما اختلفوا في الإمام والمأموم ، فقالت طائفة من أهل العلم : إنما يقول الإمام : " سمع الله لمن حمده " فقط ، ولا يقول : " ربنا ولك الحمد " .

7439 - وممن قال ذلك أبو حنيفة ومالك وأصحابهما ، والليث بن سعد .

7440 - وحجتهم ظاهر حديث ابن شهاب ، عن أنس هذا وما مثله .

7441 - وقال أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، والشافعي وأحمد بن حنبل : يقول الإمام : " سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد " كما يقول المنفرد .

7442 - وحجتهم حديث أبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري ، وعبد الله بن أبي أوفى ، فكلهم حكى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول : " سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد " .

7443 - وقال الشافعي : ويقول الإمام أيضا : " سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد " كما يقول الإمام والمنفرد ; لأن الإمام إنما جعل ليؤتم به .

7444 - وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما ، والثوري ، وأحمد بن حنبل : لا يقول المأموم : " سمع الله لمن حمده " وإنما يقول : " ربنا ولك الحمد " فقط .

7445 - وحجتهم حديث ابن شهاب هذا عن أنس : " حديث هذا الباب " وحديث أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

7446 - وفي هذا الحديث أيضا دليل على ما اختاره مالك من قوله : " ربنا ولك الحمد " بالواو .

[ ص: 406 ] 7447 - ذكره ابن القاسم وغيره عنه .

7448 - وحكى الأثرم قال : سمعت أحمد بن حنبل ثبت الواو في : " ربنا ولك الحمد " ، وقال : روى الزهري فيه ثلاثة أحاديث ، أحدها عن أنس ، والثاني عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، والثالث عن سالم عن أبيه يعني حديث رفع اليدين ، وقال في حديث علي رضي الله عنه : " اللهم ربنا ولك الحمد " بالواو .

7449 - والله الموفق للصواب لا رب غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية