الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
25 [ ص: 291 ] ( 6 ) باب النوم عن الصلاة

23 - مالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قفل من خيبر ، أسرى . حتى إذا كان من آخر الليل ، عرس . وقال لبلال : " اكلأ لنا الصبح " . ونام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، وكلأ بلال ما قدر له ، ثم استند إلى راحلته وهو مقابل الفجر فغلبته عيناه ، فلم يستيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا بلال ، ولا أحد من الركب ، حتى ضربتهم الشمس . ففزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال بلال : يا رسول الله ! أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك .

[ ص: 292 ] فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اقتادوا " . فبعثوا رواحلهم ، واقتادوا شيئا ، ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا فأقام الصلاة ، فصلى بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح . ثم قال حين قضى الصلاة : " من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها ، فإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : "
وأقم الصلاة لذكري "
( طه : 14 ) .


639 - هذا الحديث مرسل في الموطأ عند جميع رواته فيما علمت .

640 - وقد ذكرت في " التمهيد " من تابع مالكا ، عن ابن شهاب من أصحابه في إرساله ، ومن وصله فأسنده .

[ ص: 293 ] 641 - وذكرت هناك من روى عن النبي - عليه السلام - من أصحابه : نومه عن الصلاة في سفره ، فإنه روي عنه من وجوه ذكرتها في حديث زيد بن أسلم من " التمهيد " .

642 - وقول ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب في هذا الحديث : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قفل من خيبر أسرى - أصح من قول من قال : إن ذلك كان مرجعه من غزاة حنين .

643 - وفي حديث ابن مسعود : أن نومه ذلك كان عام الحديبية ، وذلك في زمن خيبر .

644 - وكذلك قال ابن إسحاق ، وأهل السير : إن نومه عن الصلاة كان حين قفوله من خيبر .

645 - والقفول : الرجوع من السفر ، ولا يقال : قفل إذا سار مبتدئا .

646 - قال صاحب العين : قفل الجيش قفولا وقفلا : إذا رجعوا ، وقفلتهم أنا هكذا ، وهو القفول ، والقفل .

[ ص: 294 ] 647 - وخروج الإمام بنفسه في الغزوات من السنن ، وكذلك إرساله السرايا ، كل ذلك سنة مسنونة .

648 - والسرى : سير الليل ومشيه ، وهي لفظة مؤنثة ، وسرى وأسرى : لغتان قرئ بهما ، ولا يقال لسير النهار : سرى . ومنه المثل السائر : عند الصباح يحمد القوم السرى .

649 - والتعريس : نزول آخر الليل ، ولا تسمي العرب نزول أول الليل تعريسا .

650 - وقوله : اكلأ لنا الصبح ، أي ارقب لنا الصبح ، واحفظ علينا وقت صلاته .

651 - وأصل الكلء : الحفظ ، والمنع ، والرعاية ، وهي لفظة مهموزة . قال الله تعالى : " قل من يكلؤكم بالليل والنهار " ( الأنبياء : 42 ) أي : يحفظكم .

652 - ومنه قول ابن هرمة :

[ ص: 295 ]

إن سليمى والله يكلؤها



653 - وفي هذا الحديث إباحة المشي على الدواب بالليل ، وذلك على قدر الاحتمال ، ولا ينبغي أن يصل المشي عليها ليلا ونهارا ، وقد أمر - عليه السلام - بالرفق بها ، وأن ينجى عليها بنقيها .

[ ص: 296 ] 654 - وفيه أمر الرفيق بما خف من الخدمة والعون في السفر ، وذلك محمول على العرف في مثله .

655 - وإنما قلنا : بالرفيق ، ولم نقل بالمملوك ; لأن بلالا كان حرا يومئذ قد كان أبو بكر أعتقه بمكة ، وكانت خيبر سنة ست من الهجرة .

656 - وقد أوضحنا في " التمهيد " معنى نوم النبي - عليه السلام - [ ص: 297 ] عن صلاته في سفره حتى طلعت الشمس مع قوله - عليه السلام - : " إن عيني تنامان ولا ينام قلبي " .

[ ص: 298 ] 657 - والنكتة في ذلك أن الأنبياء - عليهم السلام - تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ; ولذلك كانت رؤيا الأنبياء وحيا ، وكذلك قال ابن عباس : رؤيا الأنبياء وحي ، وتلا " افعل ما تؤمر " .

658 - وقد روي عن النبي - عليه السلام - أنه قال : " إنا معشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا " .

659 - وقد ذكرنا الحديث بذلك في " التمهيد " .

[ ص: 299 ] 660 - وقال تعالى حاكيا عن إبراهيم نبيه - عليه السلام - أنه قال لابنه : " إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر " ( الصافات : 102 ) .

661 - ونومه - عليه السلام - في سفره من باب قوله : " إني لأنسى أو أنسى لأسن " . فخرق نومه ذلك عادته - عليه السلام - ; ليسن لأمته .

662 - ألا ترى إلى قوله في حديث العلاء بن خباب : " لو شاء الله لأيقظنا ، ولكنه أراد أن تكون سنة لمن بعدكم " .

663 - وذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، عن عبيدة بن حميد ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن تميم بن أبي سلمة ، عن مسروق ، عن ابن عباس قال : " ما يسرني أن لي الدنيا بما فيها بصلاة النبي - عليه السلام - الصبح بعد طلوع الشمس " .

664 - وكان مسروق يقول ذلك أيضا .

665 - قرأت على عبد الوارث : أن قاسما حدثهم قال : حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا ابن الأصبهاني قال : حدثنا عبيدة بن حميد ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن تميم ، عن أبي سلمة ، عن مسروق ، عن ابن عباس قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فعرسوا من الليل ، فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس . قال : فأمر بلالا فأذن ثم صلى ركعتين " .

666 - قال ابن عباس : " فما يسرني بهما الدنيا وما فيها " يعني الرخصة .

[ ص: 300 ] 667 - قال أبو عمر : وذلك عندي - والله أعلم - لأنه كان سببا إلى أن علم أصحابه المبلغون عنه إلى سائر أمته أن مراد الله من عباده الصلاة ، وإن كانت مؤقتة ، أن من لم يصلها في وقتها فإنه يقضيها أبدا متى ما ذكرها : ناسيا كان لها ، أو نائما عنها ، أو متعمدا لتركها .

668 - ألا ترى أن حديث مالك في هذا الباب ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها " .

669 - والنسيان في لسان العرب : يكون الترك عمدا ، ويكون ضد الذكر .

670 - قال الله - تعالى - : " نسوا الله فنسيهم " ( التوبة : 67 ) أي : تركوا طاعة الله تعالى ، والإيمان بما جاء به رسوله ، فتركهم الله من رحمته .

671 - وهذا مما لا خلاف فيه ، ولا يجهله من له أقل علم بتأويل القرآن .

672 - فإن قيل : فلم خص النائم والناسي بالذكر في قوله في غير هذا الحديث : " من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " ؟ .

673 - قيل : خص النائم والناسي ليرتفع التوهم والظن فيهما لرفع القلم في سقوط المأثم عنهما بالنوم والنسيان .

674 - فأبان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن سقوط الإثم عنهما غير مسقط لما لزمهما من فرض الصلاة ، وأنها واجبة عليهما عند الذكر لها ، يقضيها كل واحد منهما بعد خروج وقتها إذا ذكرها .

675 - ولم يحتج إلى ذكر العامد معهما ; لأن العلة المتوهمة في الناسي والنائم ليست فيه ، ولا عذر له في ترك فرض قد وجب عليه من صلاته إذا كان ذاكرا له .

[ ص: 301 ] 676 - وسوى الله - تعالى - في حكمه على لسان نبيه بين حكم الصلاة الموقوتة والصيام الموقوت في شهر رمضان - بأن كل واحد منهما يقضى بعد خروج وقته .

677 - فنص على النائم والناسي في الصلاة لما وصفنا ، ونص على المريض والمسافر في الصوم .

678 - وأجمعت الأمة ، ونقلت الكافة فيمن لم يصم رمضان عامدا وهو مؤمن بفرضه ، وإنما تركه أشرا وبطرا ، تعمد ذلك ، ثم تاب عنه - أن عليه قضاءه ، فكذلك من ترك الصلاة عامدا .

679 - فالعامد والناسي في القضاء للصلاة والصيام سواء ، وإن اختلفا في الإثم ، كالجاني على الأموال المتلف لها عامدا وناسيا ، إلا في الإثم ، وكان الحكم في هذا الشرع بخلاف رمي الجمار في الحج التي لا تقضى في غير وقتها لعامد ولا لناس ، فوجوب الدم فيها ينوب عنها ، وبخلاف الضحايا أيضا ; لأن الضحايا ليست بواجبة فرضا .

680 - والصلاة والصيام كلاهما فرض واجب ، ودين ثابت يؤدى أبدا ، وإن خرج الوقت المؤجل لهما .

681 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " دين الله أحق أن يقضى " [ ص: 302 ] 682 - وإذا كان النائم والناسي للصلاة - وهما معذوران - يقضيانها بعد خروج وقتها كان المتعمد لتركها المأثوم في فعله ذلك أولى بألا يسقط عنه فرض الصلاة ، وأن يحكم عليه بالإتيان بها ; لأن التوبة من عصيانه في تعمد تركها هي أداؤها ، وإقامة تركها مع الندم على ما سلف من تركه لها في وقتها .

683 - وقد شذ بعض أهل الظاهر ، وأقدم على خلاف جمهور علماء المسلمين وسبيل المؤمنين ، فقال : ليس على المتعمد لترك الصلاة في وقتها أن يأتي بها في غير وقتها ; لأنه غير نائم ولا ناس .

684 - وإنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " .

685 - قال : والمتعمد غير الناسي والنائم .

686 - قال : وقياسه عليهما غير جائز عندنا ، كما أن من قتل الصيد ناسيا لا يجزئه عندنا .

687 - فخالفه في المسألة جمهور العلماء ، وظن أنه يستتر في ذلك برواية جاءت عن بعض التابعين ، شذ فيها عن جماعة المسلمين .

688 - وهو محجوج بهم ، مأمور باتباعهم .

689 - فخالف هذا الظاهر عن طريق النظر والاعتبار ، وشذ عن جماعة علماء الأمصار ، ولم يأت فيما ذهب إليه من ذلك بدليل يصح في العقول .

690 - ومن الدليل على أن الصلاة تصلى وتقضى بعد خروج وقتها كالصائم سواء - وإن كان إجماع الأمة الذين أمر من شذ منهم بالرجوع إليهم وترك الخروج . [ ص: 303 ] عن سبيلهم يغني عن الدليل في ذلك - قوله : " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح " . ولم يخص متعمدا من ناس .

691 - ونقلت الكافة عنه - عليه السلام - أن من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل الغروب صلى تمام صلاته بعد الغروب ، وذلك بعد خروج الوقت عند الجميع ، ولا فرق بين عمل صلاة العصر كلها لمن تعمد أو نسي أو فرط ، وبين عمل بعضها في نظر ولا اعتبار .

692 - ودليل آخر وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يصل هو ولا أصحابه يوم الخندق صلاة الظهر والعصر حتى غربت الشمس لشغله بما نصبه المشركون له من الحرب ولم يكن يومئذ ناسيا ولا نائما ، ولا كانت بين المسلمين والمشركين يومئذ حرب قائمة ملتحمة ، وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر في الليل .

693 - ودليل آخر : وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال بالمدينة لأصحابه يوم انصرافه من الخندق : " لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة فخرجوا [ ص: 304 ] متبادرين وصلى بعضهم العصر في ( طريق ) بني قريظة خوفا من خروج وقتها المعهود ، ولم يصلها بعضهم إلا في بني قريظة بعد غروب الشمس ، فلم يعنف رسول الله - عليه السلام - إحدى الطائفتين ، وكلهم غير ناس ولا نائم ، وقد أخر بعضهم الصلاة حتى خرج وقتها ثم صلاها ، وقد علم رسول الله ذلك . فلم يقل لهم : إن الصلاة لا تصلى إلا في وقتها ، ولا تقضى بعد خروج وقتها .

694 - ودليل آخر : وهو قوله - عليه السلام - : " سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها . قالوا : أفنصليها معهم ؟ قال : نعم " .

695 - حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي قال : حدثنا أبو حذيفة يوسف بن مسعود قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، عن أبي المثنى الحمصي ، عن أبي أبي ابن امرأة عبادة بن الصامت ، عن عبادة بن الصامت قال : " كنا عند النبي - عليه السلام - فقال : إنه سيكون بعدي أمراء تشغلهم أشياء حتى لا يصلوا الصلاة لميقاتها قالوا : نصليها معهم يا رسول الله ؟ قال : نعم " .

696 - قال أبو عمر : أبو المثنى الحمصي هو الأملوكي ، ثقة ، روى عن عتبة ، وأبي ابن أم حرام ، وكعب الأحبار .

[ ص: 305 ] 697 - وأبو أبي ابن أم حرام ربيب عبادة له صحبة ، وقد سماه وكيع وغيره في هذا الحديث ، عن الثوري ، وقد ذكرناه في الكنى .

698 - وفي هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أباح الصلاة بعد خروج ميقاتها ، ولم يقل : إن الصلاة لا تصلى إلا في وقتها .

699 - والأحاديث في تأخير الأمراء الصلاة حتى يخرج وقتها كثيرة جدا ، وقد كان الأمراء من بني أمية أو أكثرهم يصلون الجمعة عند الغروب .

700 - وقد قال - عليه السلام - " التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى " .

701 - وقد أعلمهم أن وقت الظهر في الحضر ما لم يخرج وقت العصر .

702 - روي ذلك عنه من وجوه صحاح ، قد ذكرت بعضها في صدر هذا الكتاب في المواقيت .

[ ص: 306 ] 703 - حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال : حدثنا حمزة بن محمد بن علي ، حدثنا أحمد بن شعيب النسائي قال : حدثنا سويد بن نصر قال : حدثنا عبد الله - يعني ابن المبارك - عن سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن عبد الله بن رباح ، عن أبي قتادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ليس في النوم تفريط ، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يحين وقت الأخرى " .

704 - فقد سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فعل هذا مفرطا ، والمفرط ليس بمعذور ، وليس كالنائم ، ولا الناسي عند الجميع من جهة العذر .

705 - وقد أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته على ما كان من تفريطه .

706 - وقد روي في حديث أبي قتادة هذا : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " وإذا كان الغد فليصلها لميقاتها " .

707 - وهذا أبعد وأوضح في أداء المفرط الصلاة عند الذكر ، وبعد الذكر .

708 - وحديث أبي قتادة هذا صحيح الإسناد ، إلا أن هذا المعنى قد عارضه حديث عمران بن الحصين في نوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الصبح في سفره ، وفيه : قالوا : يا رسول الله ، ألا نصليها من الغد ؟ قال : لا . إن الله ( لا ) ينهاكم عن الربا ثم يقبله منكم " .

709 - وروي من حديث أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - .

[ ص: 307 ] 710 - وقد روى عبد الرحمن بن علقمة الثقفي - وهو مذكور في الصحابة - قال : " قدم وفد ثقيف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلوا يسألونه فشغلوه ، فلم يصل يومئذ الظهر إلا مع العصر " .

711 - وأقل ما في هذا أنه أخرها عن وقتها الذي كان يصليها فيه بشغل اشتغل به .

712 - وعبد الرحمن بن علقمة من ثقات التابعين .

713 - وقد أجمع العلماء على أن تارك الصلاة عامدا حتى يخرج وقتها عاص لله ، وذكر بعضهم أنها كبيرة من الكبائر ، وليس ذلك مذكورا عند الجمهور في الكبائر .

714 - وأجمعوا على أن على العاصي أن يتوب من ذنبه بالندم عليه ، واعتقاد ترك العودة إليه قال : الله تعالى : " وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون " ( النور : 31 ) .

715 - ومن لزمه حق لله ، أو لعباده ، لزمه الخروج منه .

716 - وقد شبه - عليه السلام - حق الله تعالى بحقوق الآدميين ، وقال : " دين الله أحق أن يقضى " .

717 - والعجب من هذا الظاهري في نقضه أصله وأصل أصحابه فيما وجب من الفرائض بإجماع : أنه لا يسقط إلا بإجماع مثله ، أو سنة ثابتة لا تنازع في قبولها ، والصلوات المكتوبات واجبات بإجماع .

718 - ثم جاء من الاختلاف بشذوذ خارج عن أقوال علماء الأمصار [ ص: 308 ] وأتبعه دون سند روي في ذلك ، وأسقط به الفريضة المجتمع على وجوبها ، ونقض أصله ، ونسي نفسه ، والله أسأله التوفيق لما يرضاه ، والعصمة مما به ابتلاه .

719 - وقد ذكر أبو الحسن بن المغلس في كتابه : " الموضح على مذهب أهل الظاهر " قال : فإذا كان الإنسان في مصر في حش أو موضع نجس ، أو كان مربوطا على خشبة ولم تمكنه الطهارة ولا قدر عليها ، لم تجب عليه الصلاة حتى يقدر على الوضوء ، فإن قدر على الطهارة تطهر وصلى متى ما قدر على الوضوء والتيمم .

720 - قال أبو عمر : هذا غير ناس ولا نائم ، وقد أوجب أهل الظاهر عليه الصلاة بعد خروج الوقت ، ولم يذكر ابن المغلس خلافا بين أهل الظاهر في ذلك .

[ ص: 309 ] 721 - وهذا الظاهري يقول : لا يصلي أحد الصلاة بعد خروج وقتها إلا النائم والناسي ; لأنهما خصا بذلك ، ونص عليهما .

722 - فإن قال : هذا معذور كما أن النائم والناسي معذوران ، وقد جمعهما العذر - قيل له : قد تركت ما أصلت في نفي القياس واعتبار المعاني وألا يتعدى النص ، مع أن العقول تشهد أن غير المعذور أولى بإلزام القضاء من المعذور .

723 - وقد ذكر أبو عبد الله أحمد بن محمد الداودي البغدادي في كتابه المترجم بجامع مذهب أبي سليمان : داود بن علي بن خلف الأصبهاني في باب " صوم الحائض وصلاتها " من كتاب الطهارة - قال : كل ما تركت الحائض من صلاتها حتى يخرج وقتها فعليها إعادتها .

724 - قال : ولو تركت الصلاة حتى يخرج وقتها ( وتريثت ) عن الإتيان بها حتى حاضت أعادت تلك الصلاة بعينها إذا طهرت .

725 - فهذا قول داود ، وهذا قول أهل الظاهر ، فما أرى هذا الظاهري إلا قد خرج عن جماعة العلماء من السلف والخلف ، وخالف جميع فرق الفقهاء ، وشذ عنهم ، ولا يكون إماما في العلم من أخذ بالشاذ من العلم .

[ ص: 310 ] 726 - وقد أوهم في كتابه أن له سلفا من الصحابة والتابعين تجاهلا منه أو جهلا ، فذكر عن ابن مسعود ، ومسروق ، وعمر بن عبد العزيز ، في قوله تعالى : " أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا " ( مريم : 59 ) قالوا : أخروها عن مواقيتها . قالوا : ولو تركوها لكانوا بتركها كفارا . وهؤلاء يقولون بكفر تارك الصلاة عمدا ، ولا يقولون بقتله إذا كان مقرا بها ، فكيف يحتج بهم على أن من قضى الصلاة فقد تاب من تضييعها ؟ قال الله تعالى : " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " ( طه : 82 ) .

727 - ولا تصح لمضيع الصلاة توبة إلا بأدائها ، كما لا تصح التوبة من دين الآدمي إلا بأدائه .

728 - ومن قضى صلاة فرط فيها فقد تاب وعمل صالحا ، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا .

729 - وذكر عن سليمان أنه قال : الصلاة مكيال ، فمن وفى وفي له ، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله تعالى في المطففين .

730 - وهذا لا حجة فيه ; لأن الظاهر من معناه أن المطفف قد يكون الذي لم يكمل صلاته بركوعها وسجودها وحدودها وإن صلاها في وقتها .

731 - وذكر عن ابن عمر أنه قال : لا صلاة لمن لم يصل الصلاة لوقتها .

732 - وكذلك نقول : لا صلاة له كاملة ، كما لا صلاة لجار المسجد ، ولا إيمان لمن لا أمانة له .

[ ص: 311 ] 733 - ومن قضى الصلاة فقد صلاها وتاب من سيئ عمله في تركها ، وكل ما ذكر في هذا المعنى فغير صحيح ، ولا له في شيء منه حجة ; لأن ظاهره خلاف ما تأوله . والله أسأله العصمة والتوفيق .

734 - وأما فزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان فزعا منه وإشفاقا وحزنا على ما فاته من صلاته في وقتها بالنوم الغالب عليه ، وحرصا على بلوغ الغاية من طاعة ربه ، ونحو ذلك ، كما فزع حين قام إلى صلاة الكسوف فزعا يجر رداءه ، وكان فزع أصحابه في انتباههم ; لأنهم لم يعرفوا حكم من نام عن صلاته في رفع المأثم عنه ، وإباحة القضاء له .

735 - ولذلك قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله قبض أرواحنا ، ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا " .

[ ص: 312 ] 736 - ويجوز أن يكون فزعهم لما رأوه من فزعه حين انتباهه ، إشفاقا [ ص: 313 ] وفزعا ، كفزعهم حين صلى بهم عبد الرحمن بن عوف الصبح ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشتغل بطهوره ، ثم أتى فأدرك معهم ركعة ، فلما سمعوا تكبيره فزعوا . فلما قضى صلاته قال : " أحسنتم " .

737 - ولم يكن فزعه - عليه السلام - من عدو خافه كما زعم بعض من تكلم في معاني الموطأ .

738 - وفي هذا الحديث تخصيص قوله - عليه السلام - : " رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ " وبيان أنه إنما رفع عنه الإثم في تأخير الصلاة لما يغلبه من النوم ، ولم يرفع عنه وجوب الإتيان بها إذا انتبه وذكرها ، وكذلك الناسي .

[ ص: 314 ] 739 - وفي قوله - عليه السلام - : " حتى يستيقظ " في النائم ، وفي الساهي : فليصلها إذا ذكرها - بيان ما قلنا . وبالله توفيقنا . 740 - وأما قول بلال : " أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك " - يعني من النوم - فصنف من الاحتجاج لطيف يقول : إذا كنت في منزلتك من الله قد غلبتك عينك ، وقبضت نفسك فأنا أحرى بذلك .

741 - وقد روى ابن شهاب ، عن علي بن حسين قال : " دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على علي بن أبي طالب ، وفاطمة ، وهما نائمان فقال : ألا تصلون ! ألا تصلون ! فقال علي : يا رسول الله ، إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا أراد أن يبعثها بعثها ، فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ : " وكان الإنسان أكثر شيء جدلا " ( الكهف : 54 ) .

742 - وفي قول علي : إنما أنفسنا بيد الله ، وقول بلال : أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك ، مع قوله - عليه السلام - : إن الله قبض أرواحنا ، وقوله - عليه السلام - في حديث أبي جحيفة : " إنكم كنتم أمواتا فرد الله إليكم أرواحكم " مع قوله تعالى : " الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها " ( الزمر : 42 ) - دليل واضح على أن الروح والنفس شيء واحد .

743 - وقد أثبتنا بما بينا في النفس والروح عن السلف ومن بعدهم بما فيه شفاء في مرسل زيد بن أسلم من " التمهيد " والحمد لله .

744 - وأما قوله " فبعثوا رواحلهم واقتادوا شيئا " - فإنه أراد : أثاروا جمالهم ، واقتادوا سيرا قليلا ، والإبل إذا كان عليها الأوقار فهي الرواحل .

[ ص: 315 ] 745 - واختلف العلماء في معنى اقتيادهم وخروجهم من ذلك الوادي : فقال أهل الحجاز : إنما كان ذلك لأن الوقت قد كان خرج فلم يخف فوتا آخر ، وتشاءم بالموضع الذي نابهم فيه ، فقال : هذا واد به شيطان " . كما قال تعالى حاكيا عن موسى - عليه السلام - : " وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره " ( الكهف : 63 ) .

746 - وقد روى معمر ، عن الزهري في هذا الحديث ، عن ابن المسيب قال : " فاقتادوا رواحلهم وارتحلوا عن المكان الذي أصابتهم فيه الغفلة " .

747 - وذكر وكيع ، عن جعفر بن برقان ، عن الزهري : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس ، فقال لأصحابه : تزحزحوا عن المكان الذي أصابتكم فيه الغفلة ، فصلى ثم قال : " وأقم الصلاة لذكري " .

748 - وذلك كله نحو مما أشرنا إليه ، وليس من باب الطيرة ، وإنما هو من باب الكراهة .

749 - وأما أهل العراق فزعموا أن تأخير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتلك الصلاة حتى خرج من الوادي إنما كان لأنه انتبه في حين طلوع الشمس .

750 - قالوا : ومن سنته ألا يصلي عند طلوع الشمس ولا غروبها .

751 - ومن حجتهم ما أنبأنا سعيد بن نصر ، وأحمد بن قاسم ، وعبد الوارث بن سفيان قالوا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني قال : حدثنا بندار محمد بن بشار قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن جامع بن شداد قال : سمعت عبد الرحمن بن علقمة قال : سمعت ابن مسعود يقول : " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من يكلأنا الليلة فقال [ ص: 316 ] بلال : أنا . فناموا حتى طلعت الشمس ، فقال : افعلوا كما كنتم تفعلون ففعلنا . قال : " كذلك فافعلوا ثم نام أو نسي " .

752 - واحتجوا بقوله - عليه السلام - : " إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز ، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب " .

753 - وبالآثار التي رواها الصنابحي وغيره في النهي عن الصلاة في حين طلوع الشمس وحين غروبها .

754 - وحملوا ذلك على الفرائض وعلى النوافل ، وقالوا : لما كان يوم الفطر والأضحى لا يؤدى فيهما صيام رمضان ولا نفل ; لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - عن صيامهما - فكذلك هذه الأوقات لا تصلى فيها فريضة ولا نافلة ; لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فيها .

755 - وهذا يرد قوله - عليه السلام - : " من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " .

756 - وروى أبو رافع ، عن أبي هريرة أن النبي - عليه السلام - أنه قال : " إذا أدركت ركعة من صلاة الفجر قبل طلوع الشمس فصل إليها أخرى " .

[ ص: 317 ] 757 - وقد ذكرناه بإسناده في " التمهيد " .

758 - وهذه إباحة منه لصلاة الفريضة في حين طلوع الشمس وحين غروبها ، فدل ذلك على أن نهيه المذكور عن الصلاة في حين طلوع الشمس وحين غروبها لم يكن عن الفرائض ، وإنما أراد به التطوع والنافلة .

759 - وأما قوله : " فأمر بلالا فأقام الصلاة " فيحتمل أنه لم يأمره بالأذان ، وإنما أمره بالإقامة فقط .

760 - وهذا مذهب مالك في الموطأ في الصلاة الفائتة : أنها تقام بغير أذان ، وأنه لا يؤذن لصلاة فريضة إلا في وقتها .

[ ص: 318 ] 761 - ويحتمل أن يكون أمره فأقام الصلاة بما تقام به من الأذان والإقامة .

762 - وقد روي عن النبي - عليه السلام - أنه حين نام عن صلاة الفجر في سفره أمر بلالا فأذن وأقام ، وفي بعضها : أنه أمره فأقام ، ولم يذكر أذانا .

763 - واختلف الفقهاء في الأذان والإقامة للصلوات الفوائت :

764 - فقال مالك ، والأوزاعي ، والشافعي : من فاتته صلاة أو صلوات حتى خرج وقتها أقام لكل صلاة إقامة إقامة ، ولم يؤذن .

765 - وقال الثوري : ليس عليه في الفوائت أذان ولا إقامة .

766 - وقال أبو حنيفة : من فاتته صلاة واحدة صلاها بأذان وإقامة ، فإن لم يفعل فصلاته تامة .

767 - وقال محمد بن الحسن : إذا فاتته صلوات فإن صلاهن بإقامة إقامة كما فعل النبي - عليه السلام - يوم الخندق فحسن ، وإن أذن وأقام لكل صلاة فحسن ، ولم يذكر خلافا بينه وبين أصحابه في ذلك .

768 - وقال أحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، وداود : يؤذن ويقيم لكل صلاة فاتته على ما روي عن النبي - عليه السلام - حين نام في سفره عن صلاة الفجر .

769 - قال أبو عمر : كأنهم ذهبوا إلى أن ما ذكر الصحابة والرواة في أحاديث نوم النبي - عليه السلام - عن صلاة الفجر في سفره من الأذان مع الإقامة حجة على من لم يذكر ، إلا ما ذكرنا من احتمال لفظ الإقامة في التأويل .

770 - وقد ذكرنا الأحاديث بذلك في " التمهيد " من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة .

[ ص: 319 ] 771 - ( منها ) : ما أنبأناه سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين قال : " سرينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم عرس بنا من آخر الليل قال : فاستيقظنا وقد طلعت الشمس قال : فجعل الرجل يثور إلى طهوره دهشا فازعا ، فقال النبي - عليه السلام - : " ارتحلوا قال : فارتحلنا حتى إذا ارتفعت الشمس نزلنا فقضينا من حوائجنا ، ثم أمر بلالا فأذن فصلينا ركعتين ، ثم أمر بلالا فأقام ، فصلى بنا النبي - عليه السلام - قال : فقلنا : يا رسول الله ! أفنقضيها لميقاتها من الغد ؟ فقال : لا ينهاكم الله عن الربا ويأخذه منكم " .

772 - ومن حجة من قال : إن الفائتة يقام لها ولا يؤذن - حديث أبي سعيد الخدري ، وحديث ابن مسعود عن يوم الخندق : فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبس يومئذ عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء إلى هوي من الليل ثم أقام لكل صلاة ، ولم يذكر أذانا .

773 - حدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا إبراهيم بن عبد الرحمن ، حدثنا عمار بن عبد الجبار الخراساني قال : حدثنا ابن أبي ذئب . [ ص: 320 ] 774 - وحدثنا أحمد بن عبد الله قال : حدثنا الميمون بن حمزة الخشني ، حدثنا الطحاوي ، حدثنا المزني ، حدثنا الشافعي ، حدثنا ابن أبي بديل ، عن ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه قال : حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان هوي من الليل حتى كفينا ، وذلك قوله : " وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا " ( الأحزاب : 25 ) فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا فأقام ، فصلى الظهر كما كان يصليها في وقتها ، ثم أقام العصر فصلاها كذلك ، ثم أقام المغرب فصلاها ، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك ، وذلك قبل أن ينزل في صلاة الخوف : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " ( البقرة : 239 ) . معنى حديثهما سواء .

775 - وحدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا أحمد بن محمد السري ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا هشام بن عبد الله ، عن أبي الزبير ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن أبي عبيدة ، عن ابن مسعود قال : " كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحبسنا عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال : [ ص: 321 ] فأمر رسول الله بلالا فأقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ثم أقام فصلى المغرب ، ثم أقام فصلى العشاء ، ثم قال : ما على الأرض عصابة يذكرون الله غيركم " .

776 - قال أبو عمر : يعني الصلاة في ذلك الوقت ، وهذان الحديثان حجة في أن الفوائت يقام لها ولا يؤذن .

777 - واستدل بعض من يقول بأنها يؤذن لها ويقام بما في هذين الحديثين من قوله : " ثم أقام للعشاء فصلاها " والعشاء مفعولة في وقتها ليست بفائتة ، ولا بد لها من الأذان ، فدل ذلك على أن قوله : " ثم أقام فصلى العشاء " إنما أراد إقامتها بما تقام به على سنتها من الأذان والإقامة .

778 - قال : فكذلك سائر ما ذكر معها من الصلوات .

779 - قال أبو عمر : قد يحتمل أن تكون العشاء صليت في تلك الليلة بعد نصف الليل ؛ لقوله في الحديث : " هوي من الليل " وذلك بعد خروج وقتها ، فكان حكمها في ذلك حكم صلاة المغرب بعد مغيب الشفق على ما في الأحاديث المسندة .

780 - وإذا احتمل ذلك فهي فائتة ، حكمها حكم غيرها مما ذكر من الصلاة معها .

781 - وصح بظاهر هذين الحديثين أن الفوائت يقام لها ولا يؤذن ، وبالله التوفيق .

782 - وأما صلاة ركعتي الفجر لمن نام عن صلاة الفجر ولم ينتبه لها إلا بعد طلوع الشمس فإن مالكا قال : يبدأ بالمكتوبة ، ولم يعرف ما ذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ركعتي الفجر يومئذ .

[ ص: 322 ] 783 - وذكر أبو قرة موسى بن طارق في سماعه من مالك : قال : قال مالك فيمن نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس : إنه لا يركع ركعتي الفجر ، ولا يبدأ بشيء قبل الفريضة .

784 - قال : وقال مالك : لم يبلغنا أن النبي - عليه السلام - صلى ركعتي الفجر حين نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس .

785 - قال ابن وهب : سئل مالك : هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس ركع ركعتي الفجر ؟ قال : ما علمت .

786 - قال أبو عمر : ليس في شيء من رواية مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركع ركعتي الفجر في ذلك ، وإنما صار في ذلك إلى ما روى .

787 - وعلى مذهبه في ذلك جمهور أصحابه إلا أشهب ، وعلي بن زياد فإنهما قالا : يركع ركعتي الفجر قبل أن يصلي الصبح قالا : قد بلغنا ذلك عن النبي - عليه السلام - أنه صلاهما يومئذ .

788 - وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهما ، والثوري ، والحسن بن صالح : يركع ركعتي الفجر إن شاء ، ولا ينبغي له أن يدعهما .

789 - وإليه ذهب أحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وداود لما روي في ذلك من حديث عمران بن حصين وغيره .

790 - وقد ذكرنا ذلك في باب مرسل زيد بن أسلم من التمهيد .

791 - وقد كان يجب على أصل مالك أن يركعهما قبل أن يصلي الصبح ; لأن قوله : من أتى مسجدا قد صلي فيه لا بأس أن يتطوع قبل المكتوبة إذا كان في سعة من الوقت .

[ ص: 323 ] 792 - ومعلوم أن من انتبه بعد طلوع الشمس لا يخاف من فوت الوقت أكثر مما هو فيه .

793 - وكذلك قال أبو حنيفة ، والشافعي ، وداود : يتطوع إذا كان في الوقت سعة .

794 - وقال الثوري : ابدأ بالمكتوبة ، ثم تطوع بما شئت ، وهو قول الحسن بن حي .

795 - وقال الليث بن سعد : كل واجب من صلاة فريضة ، أو صلاة نذر ، أو صيام - يبدأ به قبل النفل .

796 - رواه ابن وهب عنه ، وقد روى عنه ابن وهب خلاف ذلك : قال ابن وهب : سمعت الليث يقول في الذي يدرك الإمام في قيام رمضان ولم يصل العشاء : أنه يصلي معهم بصلاتهم ، فإذا فرغ صلى العشاء قال : وإن علم أنهم في القيام قبل أن يدخل في المسجد فوجد مكانا طاهرا فليصل العشاء ثم يدخل معهم في القيام .

797 - وأما قوله في الحديث : " من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها " فإن الله يقول : " وأقم الصلاة لذكري " فقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " من وجوه قد ذكرناها في التمهيد ، وفي بعضها : " فذلك وقتها " .

798 - واحتج القائلون بأن من ذكر صلاة وهو في صلاة فسدت عليه صلاته التي هو فيها حتى يصلي التي ذكر قبلها من أصحابنا وغيرهم - بقوله هذا : " فليصلها إذا ذكرها " .

[ ص: 324 ] 799 - قالوا : فهو مأمور بإقام الصلاة المذكورة في حين الذكر ، فصار ذلك وقتا لها ، فإذا ذكرها وهو في صلاة فكأنها مع صلاة الوقت صلاتان من يوم واحد اجتمعتا عليه في وقت واحد .

800 - فالواجب أن يبدأ بالأولى منهما ، فلذلك فسدت عليه التي هو فيها ، كما لو صلى العصر قبل صلاة الظهر من ذلك اليوم .

801 - وفسادها من جهة الترتيب ، إلا أن ذلك عند مالك وأصحابه ومن يقول بقولهم لا تجب إلا مع الذكر وحصول الوقت بالترتيب وقلة العدد ، وذلك صلاة يوم فما دون .

802 - فإذا خرج الوقت سقط ، وكذلك سقط الترتيب مع كثرة العدد ; لما في ذلك من المشقة ، وما لا يطاق عليه ، ويفحش القياس فيه ; لأنه لو ذكر صلاة عام فرط فيها ، أو ذكر صلاة بين وقتها وبين صلاة وقته عام قبح بالمفتي أن يأمره بصلاة عام ونحوه قبل أن يصلي صلاة وقته .

803 - واحتج بعضهم في وجوب الترتيب بحديث أبي جمعة ، واسمه حبيب بن سباع وله صحبة قال : " صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب يوم الأحزاب ، فلما سلم قال : هل علم أحد منكم أني صليت العصر ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : فصلى العصر ، ثم صلى المغرب " .

804 - وهذا حديث لا يعرف إلا عن ابن لهيعة ، عن مجهولين لا تقوم بهم حجة .

[ ص: 325 ] 805 - وقال : الشافعي ، وداود بن علي ، وأبو جعفر الطبري : لا يلزم الترتيب في شيء من ذلك .

806 - وقالوا فيمن ذكر صلاة وهو في صلاة غيرها وحده أو وراء إمام : يتمادى في صلاته ، فإذا أتمها صلى التي ذكر ولم يعد الأخرى بعدها .

807 - وليس الترتيب عند هؤلاء بواجب فيما قل ولا فيما كثر إلا في صلاة اليوم بعينه .

808 - وحجتهم أن الترتيب إنما يجب في اليوم وأوقاته ، كما يجب ترتيب أيام رمضان في رمضان لا في غيره ، فإذا خرج الوقت سقط الترتيب .

809 - ألا ترى أن رمضان تجب الرتبة فيه والنسق لوقته ، فإذا انقضى سقطت الرتبة ، ولم يجب على الذي لم يصمه في وقته لمرض أو سفر إلا عدة من أيام أخر ؟ .

810 - وكذلك من عليه أيام من شهر رمضان فلم يصمها حتى دخل عليه رمضان آخر أنه يصومه ، ثم يصوم الأيام من الأول بعده ولا يعيده .

811 - وهذا إجماع من علماء المسلمين ، وإنما اختلفوا في الإطعام مع قضاء الأيام لمن فرط وهو قادر على الصيام .

812 - فأما داود ومن نفى القياس : فإنهم احتجوا في سقوط الترتيب بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتي الفجر يومئذ وهو ذاكر للصبح .

[ ص: 326 ] 813 - قالوا : فقد صلى صلاة سنة وهو ذاكر فيها لصلاة فريضة فلم تفسد عليه ، فأحرى ألا تفسد عليه صلاة فريضة إذا ذكر فيها أخرى قبلها .

814 - وهذا عندي احتجاج فاسد غير لازم من وجوه :

815 - ( منها ) : أن لا ترتيب بين السنن والفرائض .

816 - ( ومنها ) : أنه لم يذكر في ركعتي الفجر صلاة قبلها ، وإنما كان ذاكرا فيها صلاة بعدها .

817 - وهذا لا خفاء فيه لمن أنصف نفسه .

818 - ولا معنى لقول النبي - عليه السلام - : " فليصلها إذا ذكرها ، فإن الله تعالى يقول : " وأقم الصلاة لذكري " عند من لا يرى الترتيب إلا إيجاب الصلاة على كل من نام عنها أو تركها أو نسيها إذا ذكرها ، وأنه لازم لكل من ذكر صلاة لم يصلها أن يصليها إذا ذكرها ، وأن النائم عنها والناسي لها إذا ذكرها في حكم من ذكرها في وقتها ، وليس في ذلك عندهم إيجاب ترتيب .

819 - وقد أجمع علماء المسلمين : أن من ذكر صلوات كثيرة كصلاة شهر أو أكثر أو ما زاد على صلاة يوم وليلة ، لم يلزمه ترتيب ذلك مع صلاة وقته ، فكذلك القليل من الصلوات في القياس والنظر ، وبالله التوفيق .

820 - وسيأتي من هذا المعنى زيادة مسائل عن العلماء يزيد الناظر فيها بيانا وعلما عند ذكر حديث مالك إن شاء الله .

[ ص: 327 ] 821 - وأما معنى قوله تعالى : " وأقم الصلاة لذكري " فإن أكثر أهل العلم قالوا : معناه أن يصلي الصلاة إذا ذكرها .

822 - هذا قول إبراهيم ، والشعبي ، وأبي العالية ، وجماعة من العلماء بتأويل القرآن .

823 - وقد قرئت : ( للذكرى ) على هذا المعنى ، وكان ابن شهاب يقرؤها كذلك .

824 - وقال مجاهد : " وأقم الصلاة لذكري " : أن يذكر فيها . قال : فإذا صلى عبد ذكر ربه .

التالي السابق


الخدمات العلمية