الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
26 24 - مالك ، عن زيد بن أسلم ، أنه قال : عرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة بطريق مكة ، ووكل بلالا أن يوقظهم للصلاة ، فرقد بلال ، ورقدوا حتى استيقظوا وقد طلعت عليهم الشمس ، فاستيقظ القوم ، وقد فزعوا ، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادي ، وقال : " إن هذا واد به شيطان " فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادي ، ثم أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينزلوا ، وأن يتوضؤوا ، وأمر بلالا أن ينادي بالصلاة ، أو يقيم ، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس ، ثم انصرف إليهم ، وقد رأى من فزعهم ، فقال : " يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ، ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا ، فإذا رقد أحدكم عن الصلاة ، أو نسيها ، ثم فزع إليها ، فليصلها كما كان يصليها في وقتها " .

[ ص: 328 ] ثم التفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر فقال : " إن الشيطان أتى بلالا وهو قائم يصلي فأضجعه ، فلم يزل يهدئه كما يهدأ الصبي حتى نام " ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا ، فأخبر بلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل الذي أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر ، فقال أبو بكر : أشهد أنك رسول الله "
.


825 - وقد ذكرنا هذا الحديث متصلا مسندا من وجوه كثيرة في " التمهيد " بمعان متقاربة .

[ ص: 329 ] 826 - وفيها ما يدل على أن نومه - عليه السلام - كان منه مرة واحدة .

827 - ويحتمل أن يكون مرتين ; لأن في حديث ابن مسعود : أنا أوقظكم .

828 - وقد يمكن أن رسول الله لم يجبه إلى ذلك ، وأمر بلالا أن يوقظهم ; لأن في أكثر الأحاديث أن بلالا كان موكلا بذلك على ما في حديثي مالك .

829 - وفي بعض الأحاديث أن ذلك النوم كان منه - عليه السلام - زمن الحديبية ، وفي بعضها : زمن خيبر ، وفي بعضها : بطريق مكة .

830 - ويشبه أن يكون كل واحدا ; لأن عمرة الحديبية كانت زمن خيبر وهو طريق مكة لمن شاء ، ويجوز أن يكون غير ذلك ، والله أعلم .

831 - وأما قول عطاء بن يسار : إن ذلك كان في غزوة تبوك فليس بشيء ، وأحسبه وهما ، والله أعلم .

832 - وقد ذكرنا الآثار بذلك في " التمهيد " وقد مضى معنى : التعريس ، وكثير من معاني ألفاظ هذا الحديث فيما تقدم من القول في الحديث الذي قبله .

833 - وقوله في هذا الحديث : " فاستيقظ رسول الله وقد فزعوا " تفسيره قوله فيه : " ثم انصرف إليهم وقد رأى من فزعهم ، فقال : يا أيها الناس ، إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا " .

[ ص: 330 ] 834 - وهذا القول منه لما رأى من فزعهم دليل على أن فزعهم لم يكن من أجل عدو يخشونه ، ولو كان فزعهم من العدو كما زعم بعض أصحابنا ممن فسر الموطأ : أن فزعهم كان من خوف العدو لما قال لهم هذا القول .

835 - والوجه عندي في فزعهم أنه كان وجلا وإشفاقا على ما قدمنا ذكره ، ولم يكونوا علموا سقوط المأثم عن النائم ، وعدوه تفريطا .

836 - فلذلك قال لهم - عليه السلام - : " ليس في النوم تفريط ، إنما التفريط في اليقظة " .

837 - وقد ذكرنا الخبر بذلك فيما مضى من هذا الباب .

838 - وقد تقدم خروجهم من هذا الوادي ، وما ذهب إليه أهل الحجاز وأهل العراق في ذلك .

839 - وفي حديث ابن شهاب : " فاقتادوا رواحلهم " .

840 - وفي حديث زيد بن أسلم : " فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادي " .

841 - وهذا يحتمل أن يكون بعضهم اقتاد راحلته ، وبعضهم ركب على ما فهموا من أمره بذلك كله ; لأن في حديث ابن شهاب " فاقتادوا " وفي حديث زيد بن أسلم " فركبوا " .

[ ص: 331 ] 842 - وليس في ذلك تعارض ولا تدافع ، وممكن أن يجري من القول ذلك كله .

843 - وفي رواية ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح ، في حديث نوم النبي - عليه السلام - عن صلاة الصبح في السفر قال : " فركع ركعتين في معرسه ، ثم سار ساعة ، ثم صلى الصبح " .

844 - قال ابن جريج : فقلت لعطاء بن أبي رباح : أي سفر كان ؟ قال : لا أدري .

845 - قال أبو عمر : في سيره - عليه السلام - بعد أن ركع ركعتي الفجر أوضح دليل على أن خروجه من ذلك الوادي ، وتركه للصلاة كان لبعض ما وصفنا في الحديث قبل هذا ، لا لأنه انتبه حين بدا حاجب الشمس كما زعم أهل الكوفة ; لأنه معلوم أن الوقت الذي تحل فيه صلاة النافلة والصلاة المسنونة أحرى أن تحل فيه صلاة الفريضة .

846 - واختلف القائلون بقول الحجازيين : فقال بعضهم : من نام عن الصلاة في سفره ثم انتبه بعد خروج الوقت لزمه الزوال عن ذلك الموضع .

847 - وإذا كان واديا خرج عنه لقوله - عليه السلام - : اركبوا واخرجوا من هذا الوادي ، إن ( الشيطان ) هدأ بلالا كما يهدأ الصبي .

[ ص: 332 ] 848 - قال : فكل موضع يصيب المسافرين فيه مثل ما أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في ذلك الموضع من النوم عن الصلاة حتى يخرج وقتها فينبغي الخروج ( منه ) وإقامة الصلاة في غيره ; لأنه موضع مشؤوم ملعون ، كما روي عن علي قال : " نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أصلي بأرض بابل ; فإنها ملعونة " .

849 - وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لما أتى وادي ثمود أمر الناس فأسرعوا وقال : هذا واد ملعون . وقد روي أنه أمر بالعجين الذي عجن بماء ذلك الوادي فطرح " .

850 - وقال آخرون منهم : أما ذلك الوادي وحده إن علم وعرض فيه مثل ذلك العارض فواجب الخروج منه على ما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما سائر المواضع فلا .

851 - وذلك الموضع وحده مخصوص بذلك ; لأن الله تعالى قال : " وأقم الصلاة لذكري " .

852 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " .

853 - ولم يخص الله ولا رسوله موضعا من المواضع إلا ما جاء في ذلك الوادي خاصة .

[ ص: 333 ] 854 - وقال آخرون : كل من انتبه من نوم ، أو ذكر بعد نسيان ، أو ترك صلاة عمدا ثم ثاب إلى أدائها ، فواجب على كل واحد منهم أن يقيم صلاته تلك بأعلى ما يمكنه في كل موضع ذكرها فيه : واديا كان ، أو غير واد .

855 - وذلك أن الموضع الطاهر ( في واد تؤدى الصلاة فيه ) وسواء ذلك الوادي وغيره ; لأن قوله - عليه السلام - : " إن هذا واد به شيطان " خصوص له لا يشركه فيه غيره ; لأنه كان يعلم من حضور الشياطين بالمواضع ما لا يعلم غيره ، ولعل ذلك الوادي لم يحضره ذلك الشيطان إلا في ذلك الوقت .

856 - وذكر إسماعيل في " المبسوط " عن الحكم بن محمد ، عن محمد بن مسلم قال : ليس على من نام عن الصلاة في واد أن يؤخرها حتى يخرج من ذلك الوادي ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن هذا واد به شيطان " .

[ ص: 334 ] 857 - ولا يعلم الناس من ذلك الوادي ولا من غيره ما يعلم من ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " فإن الله يقول : " وأقم الصلاة لذكري " .

[ ص: 335 ] 858 - قال أبو عمر : الذي عليه العمل عندي وفيه الحجة لمن اعتصم به قوله - عليه السلام - : " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " .

859 - ولم يخص واديا من غيره في هذا الحديث .

860 - وفي قوله - عليه السلام - : " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " ما يبيح الصلاة في المقبرة ، والمزبلة ، والحمام ، وقارعة الطريق ، وبطون الأودية ، إذا سلم كل ذلك من النجاسة ; لأن قوله ذلك ناسخ لكل ما خالفه .

861 - ولا يجوز أن ينسخ بغيره ; لأن ذلك من فضائله - عليه السلام - وفضائله لا يجوز عليها النسخ ; لأنها لم تزل تترى به حتى مات ولم يبتز شيئا منها ، بل كان يزاد فيها .

862 - ألا ترى أنه كان عبدا غير نبي ، ثم نبأه الله ، ثم أرسله فصار رسولا نبيا ، ثم غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ووعده أن يبعثه المقام المحمود الذي يبين به فضله عن سائر الأنبياء قبله ؟

[ ص: 336 ] 863 - وفي كل ما قلنا من ذلك جاءت الآثار عنه - عليه السلام - قال : " كنت عبدا قبل أن أكون نبيا ، وكنت نبيا قبل أن أكون رسولا " .

864 - ومما يوضح ما قلنا أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر الله عنه في أول أمره أنه قال : " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " ( الأحقاف : 9 ) .

865 - وقال : " لا يقل أحدكم إني خير من يونس بن متى " .

866 - وقال له رجل : ما خير البرية ؟ فقال : " ذلك إبراهيم " .

867 - ثم شك في نفسه وفي موسى - عليه السلام - فلم يدر من تنشق الأرض عنه قبل .

[ ص: 337 ] 868 - وقال له رجل : أنت الكريم ابن الكرماء ، فقال : " ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " .

869 - ثم لما غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وأخبر أنه يبعث المقام المحمود قال : " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " .

[ ص: 338 ] 870 - فلذلك قلنا : إن فضائله لا يجوز عليها النسخ ولا التبديل ولا النقص .

871 - ألا ترى إلى قوله - عليه السلام - " أوتيت خمسا " وقد روي " ستا " وروي فيه ( ثلاثا ) و ( أربعا ) وهي تنتهي إلى أكثر من سبع قال : فيهن : " لم يؤتهن أحد قبلي : بعثت إلى الأحمر والأسود ، ونصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت أمتي خير الأمم ، وأحلت لي الغنائم لم تحل لأحد قبلي ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأتيت الشفاعة ، وبعثت بجوامع الكلم ، وبينا أنا نائم [ ص: 339 ] أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت بين يدي ، وزويت لي مشارق الأرض ومغاربها ، وأعطيت الكوثر وهو خير كثير وعذب ، ولي حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد نجوم السماء ، من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا ، وختم بي النبيون " .

872 - فهذه كلها فضائل خص بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها قوله : " جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا " .

873 - وهذه الخصال رواية جماعة من الصحابة ، وبعضهم يذكر ما لم يذكره غيره ، وهي صحاح ، ورويت في آثار شتى .

874 - فلذلك قلنا : إن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " ناسخ للصلاة في ذلك الوادي وغيره ، وفي كل موضع من الأرض طاهر .

875 - وقد ذكرنا في " التمهيد " اختلاف الفقهاء في الصلاة في المقبرة والحمام ، وأتينا بالحجة من طريق الآثار والاعتبار على من قال : إنها مقبرة المشركين في باب " مرسل زيد بن أسلم " من " التمهيد " والحمد لله .

876 - ولما لم يجز أن يقال في نهيه عن الصلاة في المزبلة ، والمجزرة ، والمقبرة ، والحمام ، ومحجة الطريق ، ومعاطن الإبل ، مزبلة كذا ، [ ص: 340 ] ولا مجزرة كذا ، ولا حمام كذا ، فكذلك لا يجوز أن يقال : مقبرة كذا ، ولا أن يقال : مقبرة المشركين ، فلا حجة ولا دليل .

877 - وأقام الدليل على أن مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناه في مقبرة المشركين .

878 - وقد أوضحنا هذا الحديث بما فيه كفاية في باب " مرسل زيد بن أسلم " من " التمهيد " .

879 - وأما قوله في مرسل حديث زيد هنا : " ثم أمر بلالا أن يؤذن أو يقيم " فهكذا رواه مالك على الشك .

880 - وقد مضى ما للعلماء من التنازع والأقوال في الأذان للفوائت من الصلوات في الحديث قبل هذا .

881 - ومضى المعنى في النفس والروح فلا معنى لإعادة ذلك هنا .

882 - وأما قوله : " فإذا رقد أحدكم عن الصلاة ، أو نسيها ثم فزع إليها فليصلها إذا ذكرها كما كان يصليها في وقتها " فقد مضى ما لمالك وأصحابه والكوفيين في تأويل ذلك .

[ ص: 341 ] 883 - وتقدم أيضا قولهم في استنباطهم من قوله - عليه السلام - : " فليصلها إذا ذكرها " وجوب ترتيب الصلوات الفوائت إذا كانت صلاة يوم وليلة .

884 - وقول الشافعي ومن تابعه في إسقاط وجوب الترتيب في ذلك ، وتأويل الحديث عندهم وما ذهب إليه كل فريق منهم ، ووجوه أقوالهم ، وتلخيص مذاهبهم ، كل هذا في هذا الباب مجود ، والحمد لله ، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك هنا ، والله الموفق للصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية