الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
510 [ ص: 356 ] 8 - باب النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر

26 - مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله الصنابحي : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان . فإذا ارتفعت فارقها ، ثم إذا استوت قارنها ، فإذا زالت فارقها ، فإذا دنت للغروب قارنها ، فإذا غربت فارقها " .

ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في تلك الساعات .


950 - هكذا ترجمة هذا الباب في الموطأ عند جماعة الرواة ، وكانت حقيقته أن يقال فيه : باب النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ، ثم يذكر النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر .

[ ص: 357 ] 951 - تابع يحيى على قوله في هذا الحديث عن عبد الله الصنابحي جمهور الرواة ، منهم القعنبي وغيره .

952 - قال فيه مطرف : عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي عبد الله الصنابحي ، وتابعه إسحاق بن عيسى الطباع ، وطائفة ، وهو الصواب .

953 - وهو أبو عبد الله الصنابحي ، واسمه عبد الرحمن بن عسيلة ، وقد ذكرنا في " التمهيد " خبره ، وأنه من كبار التابعين لا صحبة له .

[ ص: 358 ] [ ص: 359 ] [ ص: 360 ] [ ص: 361 ] 954 - وروينا عنه أنه قال : لم يكن بيني وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا خمس ليال توفي وأنا بالجحفة ، فقدمت وأصحابه متوافدون .

955 - وعن ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن الحسن ، عن الصنابحي قال : خرجنا من اليمن مهاجرين ، فقدمنا الجحفة ، فأقبل راكب فقلت : الخبر ؟ فقال : دفنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ خمس ليال .

956 - واضطرب ابن معين في حديث الصنابحي هذا ، فمرة قال : يشبه أن تكون له صحبة ، ومرة قال : أحاديثه مرسلة ليس له صحبة ، وهذا هو الصحيح ، وقد أوضحنا هذا المعنى عند ذكر هذا الحديث .

[ ص: 362 ] 957 - وأحاديث الصنابحي التي في الموطأ مشهورة ، جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق شتى من حديث أهل الشام ، وممن رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن عبسة ، وأبو أمامة الباهلي ، وعقبة بن عامر ، ومرة بن كعب البهزي ، وقد ذكرناها بطرقها في " التمهيد " .

958 - وأما قوله - عليه السلام - : " إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان " وفي بعض الروايات " تطلع بين قرني الشيطان " - وقد ذكرنا الآثار بذلك كله في التمهيد - فإن للعلماء في ذلك قولين : .

959 - ( أحدهما ) : أن ذلك اللفظ على الحقيقة ، فإنها تطلع وتغرب على قرن الشيطان ، وعلى رأس الشيطان ، وبين قرني شيطان على ظاهر الحديث حقيقة لا مجازا من غير تكييف ; لأنه لا يكيف ما لا يرى .

960 - وحجة من قال هذا القول - حديث عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال له : " أرأيت ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمية بن أبي الصلت : آمن شعره [ ص: 363 ] وكفر قلبه ؟ قال : هو حق ، فما أنكرتم من شعره ؟ قالوا : أنكرنا قوله :

والشمس تطلع كل آخر ليلة حمراء يصبح لونها يتورد


ليست بطالعة لهم في رسلها     إلا معذبة وإلا تجلد

فما بال الشمس تجلد ؟ فقال : والذي نفسي بيده ما طلعت الشمس قط حتى ينخسها سبعون ألف ملك فيقولون لها : اطلعي اطلعي ( فتقول ) : لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله ، فيأتيها ملك عن الله يأمرها بالطلوع فتشتعل لضياء بني آدم ، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن الطلوع ، فتطلع بين قرنيه فيحرقه الله عنها . وما غربت الشمس قط إلا خرت ساجدة ، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن السجود فتغرب بين عينيه ، فيحرقه الله تحتها .

[ ص: 364 ] 961 - وذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما طلعت إلا بين قرني شيطان ، ولا غربت إلا بين قرني شيطان "
.

962 - وقد ذكرنا إسناد حديث عكرمة هذا في " التمهيد " .

963 - وقال آخرون : معنى هذا الحديث عندنا على المجاز واتساع الكلام ، وأنه أريد بقرن الشيطان هنا أمة تعبد الشمس وتسجد لها وتصلي في حين غروبها وطلوعها ، تقصد بذلك الشمس من دون الله .

964 - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره التشبه بالكفار في شيء من أمورهم ، ويحب مخالفتهم ، فنهى عن الصلاة في هذه الأوقات لذلك .

965 - وهذا التأويل جائز في لغة العرب ، معروف في لسانها ; لأن الأمة تسمى عندهم قرنا ، والأمم قرونا .

966 - قال الله تعالى : " وكم أهلكنا قبلهم من قرن " ( مريم : 74 ) .

967 - " وقرونا بين ذلك كثيرا " ( الفرقان : 38 ) .

968 - وقال : " فما بال القرون الأولى " ( طه : 51 ) .

969 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خير الناس قرني " .

970 - وجائز أن يضاف القرن إلى الشيطان لطاعتهم له .

971 - وقد سمى الله الكفار حزب الشيطان .

[ ص: 365 ] 972 - ومن حجة من تأول هذا التأويل في هذا الحديث من طريق الآثار ، حديث عمرو بن عبسة السلمي ، وقد ذكرناه من طرق كثيرة في التمهيد ، وفيه : " فإذا طلعت الشمس فأقصر عن الصلاة ، فإنها تطلع على قرن الشيطان ، ويصلي لها الكفار " .

[ ص: 366 ] 973 - وبعضهم يقول فيه : " وحينئذ يسجد لها الكفار " .

974 - وبعضهم يقول فيه : " وهي ساعة صلاة الكفار " وفيه : " فإذا اعتدل النهار فأقصر ، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم " .

975 - وحديث أبي أمامة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل حديث عمرو بن عبسة ، وكلها بأحسن سياقة في " التمهيد " .

976 - وأجمع العلماء على أن نهيه - عليه السلام - عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها صحيح غير منسوخ ، وأنه لم يعارضه شيء ، إلا اختلفوا في تأويله ومعناه :

977 - فقال علماء الحجاز : مالك ، والشافعي ، وغيرهما : معناه المنع من صلاة النافلة دون الفريضة ، ودون الصلاة على الجنازة ، وهذه جملة قولهم .

978 - وقال أهل العراق ، والكوفيون ، وغيرهم : كل صلاة : نافلة ، أو فريضة ، أو على جنازة فلا تصلى عند طلوع الشمس ولا عند غروبها ولا عند استوائها ; لأن الحديث لم يخص نافلة من فريضة إلا عصر يومه ; لقوله - عليه السلام : " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " .

[ ص: 367 ] 979 - ولهم حجج قد ذكرناها في صدر هذا الكتاب ، وقد مضى الرد عليهم فيما ذهبوا إليه من ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب .

980 - وقد ردوا ظاهر الحديث إذ قالوا ببعضه ، ودفعوا بتأويلهم بعضه ; لأن الحديث جمع الصبح والعصر ، وهم قالوا : عصر يومه دون صبح يومه ، وزعموا أن مدرك ركعة من العصر يخرج إلى وقت تباح فيه الصلاة وهو بعد المغرب ، ومدرك ركعة من الصبح يخرج من الثانية إلى الوقت المنهي عنه وهو الطلوع .

981 - وهذا الحكم لا برهان لصاحبه فيه ، ولا حجة له فيه ; لأن من ذكرنا قد صلى ركعة من العصر والمغرب ، وفي قوله - عليه السلام - : " من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " مع قوله - عليه السلام : " من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " أوضح دليل على أن نهيه - عليه السلام - كان عن الصلاة عند الطلوع وعند الغروب ، لم يقصد به إلى الفريضة وإنما قصد به إلى ما عدا الفرائض من الصلوات .

982 - وعلى هذا التأويل تكون الأحاديث مستعملة كلها في هذا الباب ، فلا يرد بعضها ببعض ; لأن علينا في الكل الاستعمال ما وجدنا إلى ذلك سبيلا ، ولا يقطع بنسخ شيء من القرآن إلا بدليل لا معارض له ، أو إجماع .

983 - وأما اختلاف العلماء في الصلاة عند الاستواء : فإن مالكا وأصحابه لا بأس بالصلاة عندهم نصف النهار إذا استوت الشمس في وسط السماء ، لا في يوم جمعة ولا غيره ، ولا أعرف هذا النهي وما أدركت أهل الفضل إلا وهم يسجدون ويصلون نصف النهار .

[ ص: 368 ] 984 - وهذا ما حكى عنه ابن القاسم وغيره : أنه لم يعرف النهي في ذلك ، وفي موطئه الذي قرئ عليه إلى أن مات - النهي عن الصلاة إذا استوت الشمس في حديث الصنابحي ; لقوله فيه : " فإذا استوت قارنها " ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في تلك الساعات .

985 - وقد روي عن مالك أنه قال : لا أكره التطوع نصف النهار ولا أحبه ، ويدل قوله هذا على أنه لم يصح عنده حديث زيد بن أسلم هذا ، عن عطاء بن يسار ، عن الصنابحي في ذلك ، والله أعلم .

986 - وما أدري ما هذا ؟ وهو يوجب العمل بمراسيل الثقات ، ورجال هذا الحديث ثقات ، وأحسبه مال في ذلك إلى حديثه عن ابن شهاب ، عن [ ص: 369 ] ثعلبة بن أبي مالك القرظي : " أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر بن الخطاب " ومعلوم أن خروج عمر كان بعد الزوال ، بدليل حديث طنفسة عقيل . وقد مضى ذلك في صدر الكتاب .

987 - فإذا كان خروج عمر بعد الزوال ، وكانت صلاتهم إلى خروجه ، فقد كانوا يصلون وقت استواء الشمس ، وإلى هذا ذهب مالك ; لأنه عمل معمول به في المدينة لا ينكره منكر .

988 - ومثل هذا العمل عنده أقوى من خبر الواحد ، فلذلك صار إليه ، وعول عليه .

989 - ويوم الجمعة وغير الجمعة عنده سواء ; لأن الفرق بينهما لم يصح عنده في أثر ولا نظر .

[ ص: 370 ] 990 - وممن رخص أيضا في الصلاة نصف النهار : الحسن البصري ، وطاوس ، ورواية عن الأوزاعي ، وقد روي عن طاوس تخصيص يوم الجمعة .

991 - وقال أبو يوسف ، والشافعي ، وأصحابه : لا بأس بالتطوع نصف النهار يوم الجمعة خاصة ، وهي أيضا رواية عن الأوزاعي ، وأهل الشام .

992 - وحجة الشافعي ومن قال بقوله ما رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد ، عن إسحاق بن عبد الله ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة نصف النهار إلى أن تزول الشمس إلا يوم الجمعة " .

993 - قال أبو عمر : إبراهيم بن محمد هذا هو ابن أبي يحيى ، وإسحاق هذا هو ابن أبي فروة ، وهما متروكان ليس فيما ينقلانه ويرويانه حجة .

[ ص: 371 ] 994 - ولكن الشافعي احتج مع حديث ابن أبي يحيى بحديث مالك ، عن ابن شهاب ، عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي المذكور ، وقال : النهي عن الصلاة عند استواء الشمس صحيح ، إلا أنه خص منه يوم الجمعة بما روي من العمل المستفيض في المدينة في زمان عمر وغيره من الصلاة يوم الجمعة حتى يخرج عمر ، وبما رواه ابن أبي يحيى وغيره مما يعضده العمل المذكور . قال : والعمل في مثل ذلك لا يكون إلا توقيفا ، وإن كان حديث ابن أبي يحيى ضعيفا فإنه تقويه صحة العمل به .

995 - قال أبو عمر : قد روى إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص ، عن السائب بن يزيد قال : كان عمر إذا خرج - يعني يوم الجمعة - ترك الناس الصلاة وجلسوا .

996 - ومعلوم أن خروج عمر إنما كان بعد الزوال ; لأنه بخروج الإمام يندفع الأذان .

997 - وكذلك في حديث ابن شهاب ، عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي : " وأذن المؤذنون " .

998 - وقد روى مجاهد ، عن أبي الخليل ، عن أبي قتادة قال : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الصلاة تكره نصف النهار إلا يوم الجمعة ، فإن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة " .

999 - ومنهم من أوقفه على أبي قتادة ، ومثله لا يكون رأيا .

1000 - وقد ذكرنا هذين الحديثين بإسنادهما في " التمهيد " .

[ ص: 372 ] 1001 - وروى سفيان بن عيينة ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : يوم الجمعة صلاة كله .

1002 - وكان عطاء بن أبي رباح يكره الصلاة نصف النهار في الصيف ، ولا يكره ذلك في الشتاء .

1003 - وقال ابن سيرين : تكره الصلاة في ثلاث ساعات ، وتحرم في ساعتين : تكره بعد العصر ، وبعد الصبح ، ونصف النهار في شدة الحر . وتحرم : حين تطلع الشمس حتى يستوي طلوعها ، وحين تصفر حتى يستوي غروبها .

1004 - وذكره عبد الرزاق ، عن هشام بن حسان ، عن ابن سيرين ، وعن ابن جريج ، عن عطاء .

1004 - وقال أبو حنيفة ، ومحمد بن الحسن ، والثوري ، والحسن بن حي ، وعبد الله بن المبارك ، وأحمد بن حنبل : لا يجوز التطوع نصف النهار في شتاء ولا صيف ; لحديث الصنابحي ، وحديث عمرو بن عبسة ، ومن ذكرنا معهما في ذلك .

1006 - ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه أن تصلى فريضة فائتة ، ولا نافلة ، ولا صلاة سنة ، ولا على جنازة ، لا عند طلوع الشمس ولا عند غروبها ولا عند استوائها إلا ما ذكرنا عنهم في عصر يومه ، من أجل حديث الصنابحي وما كان مثله .

1007 - وقد مضى في هذا الباب وغيره من هذا الكتاب في ذلك ما يغني عن رده هاهنا .

1008 - ولا خلاف عن مالك وأصحابه أن الصلاة على الجنائز ودفنها نصف النهار جائز .

[ ص: 373 ] 1009 - وذكر ابن القاسم عن مالك قال : لا بأس على الصلاة على الجنائز بعد العصر ما لم تصفر الشمس ، فإذا اصفرت لم يصل على الجنائز إلا أن يخاف عليها فيصلى عليها حينئذ .

1010 - قال : ولا بأس بالصلاة على الجنازة بعد الصبح ما لم يسفر ، فإذا أسفر فلا تصلوا عليها إلا أن تخافوا عليها .

1011 - وذكر ابن عبد الحكم عن مالك : أن الصلاة على الجنائز جائزة في ساعات الليل والنهار ، وعند طلوع الشمس وغروبها واستوائها .

1012 - وقال الثوري : لا يصلى على الجنازة إلا في مواقيت الصلاة ، وتكره الصلاة عليها نصف النهار ، وبعد العصر حتى تغيب الشمس ، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس .

1013 - وقال الليث بن سعد : لا يصلى على الجنازة في الساعات التي تكره فيها الصلاة .

1014 - وقال الأوزاعي : يصلى عليها ما دام في ميقات العصر ، فإذا ذهب عنهم ميقات العصر لم يصلوا عليها حتى تغرب الشمس .

1015 - وقال الشافعي : يصلى على الجنائز في كل وقت ، والنهي عن الصلاة في تلك الساعات إنما هو عن النوافل المبتدأة والتطوع ، وأما عن صلاة فريضة أو سنة فلا ; لحديث قيس في ركعتي الفجر ، وحديث أم سلمة في قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الركعتين اللتين تصليان بعد الظهر - بعد العصر .

التالي السابق


الخدمات العلمية