الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
358 [ ص: 133 ] ( 8 ) باب صلاة الضحى .

329 - ذكر مالك فيه حديث أم هانئ من طريق موسى بن ميسرة ، عن أبي مرة ، عن أم هانئ بنت أبي طالب ، أخبرته ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى عام الفتح ثماني ركعات ، ملتحفا في ثوب واحد .

330 - وذكر مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، أن أبا مرة ، مولى عقيل بن أبي طالب ، أخبره أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب [ ص: 134 ] تقول : ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح ، فوجدته يغتسل ، وفاطمة ابنته تستره بثوب . قالت : فسلمت عليه ، فقال : من هذه ؟ فقلت : أم هانئ بنت أبي طالب . فقال : مرحبا " بأم هانئ " فلما فرغ من غسله ، قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد ، ثم انصرف . فقلت : يا رسول الله زعم ابن أمي ; علي ، أنه قاتل رجلا أجرته ، فلان بن هبيرة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ، قالت أم هانئ : وذلك ضحى .


[ ص: 135 ] 8267 - وقد ذكرنا في التمهيد أن الصحيح في أبي مرة ، أنه مولى عقيل كما قال مالك ، ولكنه يقال فيه : مولى أم هانئ ، واسمه يزيد .

8268 - واسم أم هانئ فاختة ، وقد ذكرناها في كتاب الصحابة بما ينبغي من ذكرها .

8269 - احتج بهذا الحديث : الكوفيون في جواز صلاة النهار ثماني ركعات ، وأقل من ذلك وأكثر بلا فصل من سلام .

8270 - وهذا الذي نزعوا به من هذا الحديث لا حجة لهم فيه لقوله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ، وقد أوضحنا هذا المعنى فيما مضى من كتابنا هذا .

8271 - وقد روى ابن وهب ، عن عياض الفهري ، عن مخرمة بن سليمان ، عن كريب ، عن ابن عباس ، عن أم هانئ في هذا الحديث من صلاة الضحى أنه [ ص: 136 ] صلى ثماني ركعات ، يسلم بين كل ركعتين منها .

8272 - وقد احتج بهذا الإسناد ، أحمد بن حنبل .

8273 - قال الأثرم : قيل لأحمد : أليس قد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى قبل الظهر أربعا ؟ فقال : وقد روي أيضا أنه صلى الضحى ثمانيا ، فتراه لم يسلم فيها .

8274 - وذكر حديث ابن وهب هذا بإسناده ، عن ابن عباس ، عن أم هانئ بنت أبي طالب ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الضحى ثماني ركعات ، يسلم بين كل ركعتين .

8275 - وأما قوله : ملتحفا في ثوب واحد ، فقد مضى القول في الصلاة في الثوب الواحد فيما تقدم من هذا الكتاب ، ومضى تفسير الالتفاف والالتفاع والالتحاف فيما تقدم منه أيضا .

8276 - وأما حديثه في هذا الباب عن أبي النضر ، عن أبي مرة ، عن أم هانئ ، ففيه من الفقه : الاغتسال بالعراء إلى سترة ; لأن اغتساله ذلك كان منه - صلى الله عليه وسلم - وهو بالأبطح ، وفيه كان يومئذ نزوله .

8277 - حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا [ ص: 137 ] محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا الحميدي .

8278 - وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا محمد بن عبد السلام الحسيني ، قال : حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا محمد بن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي مرة مولى عقيل ، عن أم هانئ قالت : أتاني يوم الفتح حموان لي فأجرتهما ، فجاء علي يريد قتلهما ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في قبته بالأبطح بأعلى مكة ، فوجدت فاطمة فأخبرتها ، فكانت أشد علي من علي ، فقالت : تؤمنين المشركين وتجيرينهم . فبينما أنا أكلمها إذ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى وجهه وهج الغبار ، فقلت : يا رسول الله ، إني أمنت حموين لي وإن ابن أمي عليا يريد قتلهما ، فقال : ما كان ذلك له قد أجرنا من أجرت ، وأمنا من أمنت ، ثم أمر فاطمة أن تسكب له غسلا ، فسكبت له في جفنة إني لأرى فيها أثر العجين ، ثم سترت عليه ، فاغتسل ، فقام فصلى الضحى ثماني ركعات في ثوب واحد قد خالف بين طرفيه ، لم أره صلاها قبل ولا بعد .

[ ص: 138 ] 8278 - وفيه أن ستر ذوي المحارم عند الاغتسال مباح حسن .

8279 - وفيه جواز السلام على من يغتسل ، وفي حكم ذلك السلام على من يتوضأ ، ورد المتوضئ والمغتسل السلام في ذلك كرده لو لم تكن ذلك حالته ، وقد قال الله - عز وجل - : " وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " [ النساء : 86 ] ولم يخص حالا من حال . إلا حالا لا يجوز فيه الكلام .

8280 - وقد احتج بهذا الحديث من رد شهادة الأعمى وقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يميز صوت أم هانئ مع علمه بها حتى قال لها : من هذه ؟ فقالت : أنا أم هانئ ، فلم يعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صوتها ; لأنه لم يرها وكل من لا يرى فذلك أحرى .

8281 - وفيه ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأخلاق الجميلة الحسنة ، وصلة الرحم ، وطيب الكلام . ألا ترى إلى قوله عليه السلام " مرحبا بأم هانئ " ويروى : مرحبا يا أم هانئ . والرحب والتسهيل ما يستدل به على فرح المزور بالزائر ، وفرح المقصود إليه بالقاصد .

8282 - وهذا معلوم عند العرب ، قال شاعرهم :

فقلت له أهلا وسهلا ومرحبا فهذا مبيت صالح وصديق



8283 - وهذا البيت من أبيات حسان لعمرو بن الأهتم ، وهو الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ سمعه مدح الزبرقان بن بدر ، ثم ذمه لم يتناقض في قوله : " إن من [ ص: 139 ] البيان لسحرا .

[ ص: 140 ] 8284 - وقد ذكرت الشعر في كتاب " بهجة المجالس " ومثل هذا كثير في أشعارهم وأخبارهم . وقد تقدم القول في صلاة الثماني ركعات .

8285 - وأما قولها : زعم ابن أمي علي أنه قاتل رجل أجرته فلان بن هبيرة ، ففيه : ما كانوا عليه من تسمية كل شقيق بابن أم ، دون ابن أب عند الدعاء لهم .

8286 - والخبر عنهم بذلك يدلك على قرب المحل من القلب ، والمنزلة من النفس ; إذ جميعهم بطن واحد ، ونحو هذا .

8287 - وبهذا نطق القرآن على لغتهم ، قال الله - عز وجل - حاكيا عن هارون بن عمران أخي موسى بن عمران : " ياابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي " [ طه : 94 ] و " ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني " [ الأعراف : 150 ] وهما لأب وأم .

8288 - وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ، ففيه دليل على جواز أمان المرأة ، وأنها إذا أمنت من أمنت حرم قتله وحقن دمه ، وأنها لا فرق بينها في ذلك وبين الرجل ، وإن لم يكن تقاتل .

8289 - وعلى هذا مذهب جمهور الفقهاء بالحجاز والعراق : مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، وأصحابهم ، والثوري ، والأوزاعي ، وأبي ثور ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وداود ، وغيرهم .

8290 - وقال عبد الملك بن الماجشون : أمان المرأة موقوف على جواز الإمام ، [ ص: 141 ] فإن أجازه جاز ، وإن رده رد ; لأنها ليست ممن يقاتل ولا ممن لها سهم في الغنيمة .

8291 - واحتج من ذهب هذا المذهب ، بأن أمان أم هانئ لو كان جائزا على كل حال دون إذن الإمام ، ما كان علي ليريد قتل من لا يجوز قتله ; لأمان من يجوز أمانه . فلو كان أمانها جائزا لقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أمنته أنت أو غيرك ، فلا يحل قتله ، فلما قال لها : قد أمنا من أمنت وأجرنا من أجرت ، كان ذلك دليلا على أن أمان المرأة موقوف على إجازة الإمام أو رده .

8292 - واحتج الآخرون ، وهم الأكثرون من العلماء ، بأن عليا وغيره لم يكن يعلم إلا ما علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من علم دينه . ألا ترى إلى قول ابن عمر : بعث إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن لا نعلم شيئا ، فإنما نفعل كما رأيناه يفعل .

8293 - ويحتمل قوله عليه السلام : قد أجرنا من أجرت ، أي في حكمنا وسنتنا إجارة من أجرته أنت ومثلك ، ولم يحتج إلى قوله لها : أو مثلك من النساء ; لأنه كان على خلق عظيم ، وأراد تطييب نفسها بإسعافها في رغبتها ، وإن كانت قد صادفت حكم الله في ذلك .

8294 - والدليل على صحة هذا التأويل ، قوله - صلى الله عليه وسلم - " المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، ويرد عليهم أقصاهم ، وهم يد على من سواهم .

8295 - ومعنى قوله : " تتكافأ دماؤهم " : يريد أن شريفهم يقتل بوضيعهم إذا شملهم الإسلام ، وجمعهم الإيمان والحرية .

[ ص: 142 ] 8296 - وفي ذلك دليل على أن الكفار لا تتكافأ دماؤهم ; لقوله : " المسلمون تتكافأ دماؤهم " ، وهذا موضع اختلف فيه العلماء . ليس هذا موضع ذكره .

8297 - ومعنى قوله : " يسعى بذمتهم أدناهم " أن كل مسلم أمن من الحربيين أحدا جاز أمانه دنيئا كان أو شريفا ، رجلا كان أو امرأة ، عبدا كان أو حرا ، وفي هذا حجة على من لم يجز أمان المرأة وأمان العبد .

8298 - ومعنى قوله : " ويرد عليهم أقصاهم " يريد السرية إذا خرجت من العسكر فغنمت ، أبعدت في خروجها في ذلك ، ولم تبعد ترد ما غنمت عليها وعلى العسكر الذي خرجت منه ; لأن به وصلت إلى ما وصلت إليه . 8299 - ومعنى قوله : " وهم يد على من سواهم " أن أهل الحرب إذا نزلوا بمدينة أو قرية من قرى المسلمين ، فواجب على جماعة المسلمين أن يكونوا يدا واحدة على الكفار ; حتى ينصرفوا عنهم ، إلا أن يعلموا أن بهم قوة على مدافعتهم ، فيكون حينئذ مدافعتهم ندبا وفضلا لا واجب فرض .

8300 - ومما يدل على صحة ما ذهب إليه جمهور العلماء في جواز أمان المرأة مع قوله عليه السلام : " ويسعى بذمتهم أدناهم " قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم هانئ هذا من رواية الحميدي ، عن ابن عيينة ، عن ابن عجلان ، عن سعيد المقبري ، عن أبي مرة ، عن أم هانئ . . . . . وقد ذكرناه في هذا الباب . وفيه : فقلت يا رسول الله : إني أجرت حموين لي ، وإن ابن أمي عليا أراد قتلهما ، فقال رسول الله : ليس ذلك له ، قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت . وفي قوله في هذا الحديث : ليس ذلك له [ ص: 143 ] دليل على صحة ما قلنا . وبالله التوفيق .

8301 - ويدل على ذلك أيضا ما رواه إبراهيم النخعي ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز .

8302 - وحديث عمرو بن مرة ، عن أبي البختري ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ذمة المسلمين واحدة وإن جارت عليهم جارية فلا تخفروها ، فإن لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة .

8303 - وقد ذكرنا إسناد هذين الحديثين في التمهيد .

8304 - وروى الوليد بن رباح ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يجير على المسلمين أدناهم " .

8305 - وقد ذكرنا إسناده أيضا في التمهيد .

8306 - وروى مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة " الحديث .

[ ص: 144 ] 8307 - وأما اختلاف العلماء في أمان العبد ، فقال مالك ، والشافعي ، وأصحابهما ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وداود : أمانه جائز قاتل أو لم يقاتل .

8308 - وهو قول محمد بن الحسن .

8309 - وقال أبو حنيفة : أمانه غير جائز إلا أن يقاتل .

8310 - وهو قول أبي يوسف .

8311 - وروي عن عمر معناه .

8312 - والحجة فيما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مما أوردنا في هذا الباب . والحمد لله .

8313 - وأما قول أم هانئ في الحديث : " وذلك ضحى " ففيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الضحى . وليس في قول عائشة في هذا الباب .

التالي السابق


الخدمات العلمية