الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
362 [ ص: 152 ] ( 9 ) باب جامع سبحة الضحى .

333 - ذكر فيه مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس أن جدته مليكة دعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى طعام صنعته فأكل منه ، ثم قال رسول الله : - صلى الله عليه وسلم - " قوموا فلأصل لكم . قال أنس : فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس ، فنضحته بماء ، فقام عليه رسول الله وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى بنا ركعتين ثم انصرف .


8349 - في هذا الحديث إجابة الدعوة إلى الطعام في غير الوليمة ، وفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأسوة الحسنة .

8350 - وفيه : أن المرأة المتجالة ، والمرأة الصالحة ، إذا دعت إلى طعام أجيبت .

8351 - قال الله - عز وجل - : " والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن [ النور : 60 ] . [ ص: 153 ] 8352 - وفيه من الفقه : أن من حلف ألا يلبس ثوبا ، ولم تكن له نية ولا لكلامه بساط يعلم به مخرج يمينه ، فإنه يحنث بما ينوي ويبسط من الثياب ; لأن ذلك يسمى لباسا .

8353 - ألا ترى إلى قوله : فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس .

8354 - وأما نضح الحصير ، فإن إسماعيل بن إسحاق وغيره من أصحابنا كانوا يقولون : إنما كان ذلك ليلين الحصير ، لا لنجاسة فيه .

8355 - وقال بعض أصحابنا : إن النضح طهارة لما شك فيه ; لتطييب النفس عليه اتباعا لعمر في قوله : أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أره . 8356 - قال أبو عمر : الذي أقول به أن ثوب المسلم محمول على الطهارة حتى يستيقن بالنجاسة ، وأن النضح فيما قد تنجس لا يزيده إلا شرا ، وقد يسمى الغسل نضحا .

8357 - وقد ذكرنا ذلك بالشاهد عليه فيما تقدم من هذا الكتاب .

8358 - إلا أن من قصد بالنضح - الذي هو الرش - إلى قطع الوسوسة ، وحزازة النفس فيما يشك فيه ، اتباعا لعمر وغيره من السلف ، واتباعا للأصل في الثوب أنه على الطهارة محمول حتى تصح النجاسة فيه ، إلا أن يكون في النفس فيما شك فيه اتباعا شيء من الشك يقطع بالرش على ما جاء عن السلف ، فهو احتياط غير مضر وبالله التوفيق .

8359 - وأما النضخ بالخاء المنقوطة : فالكثير المنهمر .

8360 - يدل على ذلك قول الله - عز وجل - " فيهما عينان نضاختان " [ الرحمن : 66 ] .

8361 - وفي هذا الحديث حجة على الكوفيين القائلين : إذا كانوا ثلاثة وأرادوا أن يصلوا جماعة ، قام إمامهم وسطهم ; لحديث رووه عن علقمة ، والأسود أن [ ص: 154 ] ابن مسعود صلى بهما فقام وسطهما .

8362 - وقد ذكرنا في التمهيد من رفع هذا الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحيح أنه موقوف .

8363 - وقال أهل الحجاز وأكثر أهل العلم : يقومان خلفه كما لو كانوا ثلاثة سوى الإمام ، ولم يختلفوا فيما لو كانوا ثلاثة سوى الإمام أنه يقف أمامهم ويقومون خلفه .

8364 - وكذلك إذا كانوا اثنين سوى الإمام ; بدليل هذا الحديث عن أنس قوله : " فصففت أنا واليتيم من ورائه - صلى الله عليه وسلم - " .

8365 - وقد روينا عن جابر بن عبد الله ، قال صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبجبار بن صخر ، فأقامنا خلفه .

8366 - وزعم الشافعي أن فيه حجة على من أبطل صلاة المصلي خلف الصف وحده ; لأن العجوز قد قامت خلف الصف في هذا الحديث .

8367 - وكان أحمد بن حنبل ، والحميدي ، وأبو ثور ، يذهبون إلى الفرق بين [ ص: 155 ] الرجل والمرأة في المصلي خلف الصف ، فكانوا يرون الإعادة على من صلى خلف الصف وحده من الرجال ; لحديثوابصة بن معبد عن النبي - عليه السلام - بذلك .

8368 - ولا يرون على المرأة إذا صلت خلف الصف شيئا ; لهذا الحديث .

8369 - وقالوا : سنة المرأة أن تقوم خلف الرجال لا تقوم معهم .

8370 - قالوا : فليس في حديث أنس هذا حجة لمن أجاز الصلاة للرجل خلف الصف وحده .

8371 - قال أبو عمر : لا خلاف في أن سنة النساء القيام خلف الرجال ، لا يجوز لهن القيام معهم في الصف .

8372 - وقد ذكرنا في التمهيد حديث شعبة ، عن عبد الله بن المختار ، عن موسى بن أنس ، عن أنس ، قال : صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بي وبامرأة من أهلي ، فأقامني عن يمينه والمرأة خلفنا . [ ص: 156 ] 8373 - وحديث أبي مالك الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصف الرجال ، ثم الصبيان خلف الرجال ، ثم النساء خلف الصبيان في الصلاة .

8374 - وأما الشافعي فقد استدل على جواز صلاة الرجل خلف الصف وحده بحديث أنس هذا ، وأردفه بحديث أبي بكرة حين ركع خلف الصف وحده فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " زادك الله حرصا ولا تعد " ولم يأمره بإعادة الصلاة .

8375 - قال : وقوله لأبي بكرة لا تعد ، يعني لا تعد أن تتأخر عن الصلاة حتى تفوتك أو تفوتك منها ركعة .

8376 - قال : وإذا جاز الركوع للرجل خلف الصف وحده أجزأ ذلك عنه ، فكذلك سائر صلاته ; لأن الركوع ركن من أركانها ، فإذا جاز للمصلي أن يركع خلف الصف وحده ، جاز له أن يسجد وأن يتم صلاته ، والله أعلم .

8377 - وقد احتج جماعة من أصحابنا بما احتج به الشافعي في هذه المسألة .

8378 - والذي أقول : إنه ليس في هذا الباب حجة على من أنكر صلاة [ ص: 157 ] الرجل وحده خلف الصف ; لأن السنة المجتمع عليها أن تقوم المرأة خلف الرجال .

8379 - ولكني أقول : إن الحديث في إبطال صلاة الرجل خلف الصف وحده ، مضطرب الإسناد لا يقوم به حجة .

8380 - وقد اتفق فقهاء الحجاز والعراق على ترك القول به ، منهم : مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهم ، ومن سلك سبيلهم ، كلهم يرى أن صلاة الرجل خلف الصف جائزة .

8381 - وفي هذا الحديث أيضا : ما يدل على أن الصبي إذا عقل الصلاة حضرها مع الجماعة ودخل معهم في الصف ، إذا كان يؤمن منه اللعب والأذى ، وكان ممن يفهم معنى ما هو فيه من الصلاة .

8382 - وقد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان إذا أبصر صبيا في الصف أخرجه .

8383 - وعن زر بن حبيش ، وأبي وائل مثل ذلك .

8384 - وهذا يحتمل أن يكون ذلك الصبي ممن لا يؤمن لعبه وعبثه ، أو يكون كره التقدم له في الصف مع الشيوخ ، والأصل ما ذكرنا بحديث هذا الباب ، والله أعلم .

8385 - وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى كراهة ذلك .

8386 - قال الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يكره أن يقوم مع الناس في المسجد إلا من قد احتلم أو أنبت أو بلغ خمس عشرة سنة ، فذكرت له حديث أنس واليتيم فقال : ذلك في التطوع .

8387 - وفي هذا الحديث صلاة الضحى ; ولذلك ساقه مالك ، وقد مضى [ ص: 158 ] القول في صلاة الضحى في الباب قبل هذا .

8388 - وقد ذكرنا في التمهيد حديث شعبة عن ابن سيرين ، عن أنس بن مالك ، قال : كان رجل ضخم لا يستطيع أن يصلي مع النبي عليه الصلاة والسلام فقال : إني لا أستطيع أن أصلي معك فلو أتيت منزلي فصليت فأقتدي بك ، فصنع الرجل طعاما ثم دعا بالنبي عليه الصلاة والسلام ، ونضح حصيرا لهم ، فصلى النبي عليه ركعتين ، فقال : رجل من آل الجارود لأنس : أكان رسول الله يصلي الضحى ؟ فقال : ما رأيته صلاها إلا يومئذ .

التالي السابق


الخدمات العلمية